كتب طوفان الجنيد:
الحمد لله ربِّ العالمين، وليِّ المؤمنين، وناصرِ المستضعفين، ومبطلِ كيدِ الكافرين، وفاصمِ الجبارين، والقائل:
(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعَفُواْ فِي ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمۡ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ).
والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ خاتمِ المرسلين ورحمةِ اللهِ على آلِهِ الطاهرين، وبعد:
لم تعد مشاهدُ الدمارِ والقتلِ في قطاعِ غزة حبيسةَ الشاشاتِ الصغيرةِ أو منشوراتِ وسائلِ التواصلِ الاجتماعيِّ، بل تحولت إلى وقودٍ أشعلَ غضبًا شعبيًّا عالميًّا لم تشهده العواصمُ الدوليةُّ مثيلًا منذ سنوات. بفضلِ اللهِ وصبرِ المظلومينَ من أبناءِ غزة وفلسطين، لم يعد هذا الغضبُ حكرًا على أحرارِ العالمِ العربيِّ أو الإسلاميِّ، بل تجاوزَ الحدودَ الجغرافيةَ والانتماءاتِ الثقافيةَ والدينيةَ، ليصبح صوتًا إنسانيًّا عظيمًا يندد بجرائمِ الإبادةِ البشريةِ التي يرتكبها الكيانُ الصهيونيُّ، وبدعمٍ رئيسٍ ومباشرٍ من أمريكا التي تدّعي حمايةَ الحقوقِ والإنسانيةِ ورعايةَ الديمقراطيةِ كذبًا وزيفًا. هذا الغضبُ العارمُ عرّى وفضح رأسَ الشرِّ والجرمِ: أمريكا والكيانَ النازيَّ، وكشفَ زيفَ الروايةِ التي تُسوّقها الآلةُ الإعلاميةُ التابعةُ لهما.
لقد قيضَ اللهُ لعبادهِ الملايينَ الذين استبدلوا بالصامتينَ والخانعينَ والمتخاذلينَ من الأعرابِ والمنافقينَ، وجعلَ من مشاهدِ الإبادةِ الجماعيةِ التي يرتكبها الكيانُ المجرمُ شرارةً أَشعلت الضميرَ الإنسانيَّ العالميَّ.
ولطالما حاولَ الإعلامُ الصهيونيُّ والأمريكيُّ تصديرَ نفسِهِما كـ«دولتينِ ديمقراطيتين» وبصفتهما حصنًا منيعًا للقيمِ الإنسانيةِ في قلبِ منطقةٍ مضطربةٍ، لكن صورَ الأطفالِ المشوّهين تحتَ الأنقاضِ، والأمهاتِ الثكالى، والمستشفياتِ المدمّرةِ، والمساعداتِ الإنسانيةِ المحاصرةِ، قشَّرت هذه القشرةَ الزائفةَ لتكشفَ عن وجهٍ عنصريٍّ استعماريٍّ لا يختلف في ممارساته عن أبشعِ نظمِ الفصلِ العنصريِّ. لم يعد العالمُ يصدّقُ خطابَ «الدفاعِ عن النفس» أمامَ مشاهدِ الإبادةِ الجماعيةِ المنهجيةِ، حيث تحوّلَ قطاعُ غزة إلى مختبرٍ حقيقيٍّ لاختبارِ أحدثِ الأسلحةِ على شعبٍ محاصرٍ، في انتهاكٍ صارخٍ لكلِّ المواثيقِ والأعرافِ الدوليةِ والقيمِ الإنسانيةِ الأساسيةِ.
أسطولُ الصمودِ الإنسانيِّ — منعطفٌ جديدٌ في كسرِ الحصارِ وكشفِ الحقيقةِ:
لم يكن الاعتداءُ على «أسطولِ الصمودِ الإنسانيِّ» سوى فصلٍ جديدٍ من فصولِ العنفِ الممنهجِ الذي تمارسهُ سلطاتُ الاحتلالِ ضدَّ أيِّ محاولةٍ لكسرِ الحصارِ الظالمِ على غزة أو لإلقاءِ الضوءِ على معاناةِ سكانها.
هذا الاعتداءُ، الذي استهدفَ نشطاءَ سلامٍ وحقوقيينَ وإعلاميينَ من جنسياتٍ مختلفةٍ، كان رسالةً واضحةً مفادها أنَّ الكيانَ الصهيونيَّ لا يتردّدُ في استخدامِ القوةِ المفرطةِ ضدَّ أيِّ صوتٍ، بغضِّ النظرِ عن هويّتهِ، يحاولُ فضحَ ممارساتِه. لكنَّ هذه الرسالةَ انعكست عكسًا؛ فبدلًا من ترهيبِ النشطاءِ، حوّلت الحادثةُ الأنظارَ العالميةَ مرةً أخرى إلى فداحةِ الجرائمِ والحصارِ الخانقِ وغيرِ الإنسانيِّ على غزة، وأظهرت للعالمِ أنَّ الكيانَ الصهيونيَّ وداعمه أعداءُ للإنسانيةِ وللحريةِ والديمقراطيةِ، ولا يتردّدون في مهاجمةِ سفنٍ تحملُ موادًّا إنسانيةً وأدويةً ووسائلَ إعلامٍ في المياهِ الدوليةِّ.
موجاتُ الغضبِ — من الشارعِ إلى المؤسساتِ:
لم يقتصر الغضبُ على المظاهراتِ المليونيةِ التي عمّتْ عواصمَ ومدنَ العالمِ من جاكرتا إلى لندن، ومن نيويورك إلى جوهانسبرغ، بل تسلّل هذا الغضبُ إلى دوائرَ كانت تُعدُّ داعمةً للكيانِ الصهيونيِّ؛ فبرز في معظمِ المؤسساتِ السياسيةِ والتعليميةِ والتشريعيةِ:
1- الجامعاتُ: لقد شهدت أعرقُ الجامعاتِ في الولاياتِ المتحدةِ وأوروبا حركاتِ احتجاجٍ طلابيةٍ ضخمةٍ تطالبُ بمقاطعةِ الكيانِ الصهيونيِّ أكاديميًّا وثقافيًّا، وسحبَ الاستثماراتِ منه، وفضحَ علاقاتِ التعاونِ الجامعيِّ معه.
2- المجتمعُ المدنيُّ: انضمَّت إلى حملةِ المقاطعةِ النقاباتُ العماليةُ ونقاباتُ المحامينِ والجمعياتُ الحقوقيةُ والفنانونَ والمثقفونَ البارزونَ، مما منحها زخمًا غيرَ مسبوقٍ.
3- داخلَ الكيانِ نفسه: تصاعدت أصواتُ «المعترضين السياسيين وأصحابِ الضمائرِ الحية»، وحتى جنودٍ سابقين ومواطنين يهودٍ ينددون بسياساتِ حكومتِهم العنصريةِ، مؤكدين أنَّ أمنَ إسرائيلَ الحقيقيَّ لا يكمنُ في القوةِ العسكريةِ، بل في تحقيقِ العدالةِ والسلامِ. كما شهدت البرلماناتُ الغربيةُ والأوساطُ الدبلوماسيةُ نقاشاتٍ حادّةً حولَ فرضِ عقوباتٍ على الكيانِ الإسرائيليِّ، وأصدرت بياناتٍ، واعترفت دولٌ عديدةٌ بدولةِ فلسطينَ، في ضربةٍ دبلوماسيةٍ للكيانِ الصهيونيِّ.
الخلاصةُ: رياحُ التغييرِ تعصفُ بالروايةِ الصهيونيةِ:
اتساعُ رقعةِ الغضبِ الشعبيِّ العالميِّ مؤشرٌ واضحٌ على أنَّ العالمَ يتغير. لقد سقطت ورقةُ التينِ التي كانت تُخفي حقيقةَ المشروعِ الصهيونيِّ الاستعماريِّ. لم يعد بالإمكانِ تبريرُ القتلِ باسمِ «معاداةِ السامية»، ولم يعد مقبولًا وصمُ أيِّ نقدٍ للكيانِ الصهيونيِّ بأنه تحريضٌ على الكراهيةِ.
هذا الغضبُ العالميُّ إعادةُ إحياءٍ للضميرِ الإنسانيِّ وتذكيرٌ بأنَّ الشعوبَ، رغمَ كلِّ محاولاتِ التضليلِ، قادرةٌ على تمييزِ الحقِّ من الباطلِ. ورسالةٌ قويةٌ إلى ضحايا غزة: «أنتم لستم وحدكم»، ورسالةُ تحذيرٍ للكيانِ الصهيونيِّ بأنَّ جرائمه مسجلةٌ ولن تُنسى، وأنَّ زمنَ الإفلاتِ من العقابِ أوشك على النهايةِ. المعركةُ طويلةٌ، لكنَّ المنحنى التاريخيَّ يصبُّ في مصلحةِ الحقِّ والعدالةِ، وأنَّ صمودَ شعبِ غزة، مقترنًا بهذا الغضبِ العالميِّ، هو الذي سيرسمُ ملامحَ المستقبلِ؛ وأنَّ النصرَ حليفُهم، طالَ الزمنُ أو قصرَ. وإنَّ مؤشرَ زوالِ الكيانِ قد بدأَ بالعدِّ التنازليِّ إلى النهايةِ والانهيارِ — المصيرُ الحتميُّ لكلِّ ظالمٍ: الزوال.