لكنه هنا. …

يقف في المكان نفسه، يحدّق معنا في امتلاء المعنى
السيِّدُ العابرُ فينا

حدَثَ ذلك عند بكاءِ الشمس. جسدُه بقيَ سليمًا. لم يتناثَر. لم ينكسر. كان يمكنُ أن يستحيلَ رمادًا أو أشلاءً مبعثرة. لم يحدث ذلك. لم يَمُتِ السيِّدُ كما توقَّعَ الموتُ أن يميتَه.

ثمانون حِقدًا سقطَتْ فوقَ هامَتِه. مساءُ السادسةِ أطبقَ على الأرض. ارتجفتِ الحجارة. تكسَّرتِ النوافذُ في النّواحي البعيدة. لكن في مركزِ العاصفةِ، كان هناكَ صمتٌ أعلى من كل أصوات العالم.

جسدهُ بقي هناك، كما هو. صخرةٌ لا تعرفُ الانحناء. لم يَسمح للعَصفِ أن يشوِّهَ ملامحه.
كانَ هادئًا حينَ صاحَ الآخرون. واقفًا حين انهارت الجبهات. في عينيه لمَعَ شيءٌ ضدَّ القهر. ماتَ السيِّدُ متبسِّمًا للموت. أفشلَ محاولةَ الموتِ إخافته.

عام مرَّ على الجرح. لا ضمادةَ نفعت ولا مسكِّنَ للشوق نَفع. الحزن الذي تركه فينا أشبَهُ بالصخرة. ثقيلٌ، لكنه يحمل دفئًا. لا يمكننا أن ننسى، ولا نريد أن ننسى.

غياب السيِّد صار وجودًا آخر. فراغًا في قشرة الحياة مليئًا في لبِّها. ابتسامته بقيت، رغم كل شيء، تتنفس بين دموعِنا. هل هذا هو الموت؟ كثيرون يتصورونه جدارًا أسود، غالًا يوصِدُ الأسطورة. تبيَّنَ أنه مفتاح الأسطورة. سيرةُ السيِّد نهرٌ يخرج من لحم الأرض ويمضي بهدوء في لحمِنا الحيّ. لا عويلَ فيها ولا نَحيب. سيرتهُ انتقال من بقائه إلى بقائنا. لحظة يتساوى فيها الخوف والسكينة. لحظة تدرك فيها أن كل ما حمله من تعب كان طريقًا إلى هذا الصفاء.

أدركنا في لحظةِ الثمانين طنًّا أنَّ الموتَ لا يُعادي الحياة. هو ظلُّها الطبيعي. يكملها كما يكمل الليل النهار. لولاه لما شعرنا بمعنى الفرح، ولما عرفنا قيمة اليد التي مدَّها السيِّدُ الينا. موتُهُ ليس سلبًا، بل كشفًا. يعرّفك على ما كنت تحبه دون أن تعرف.

نحن الآن نمشي، نتحدث، وربما نحاول النسيان. لكنه هنا. يقف في المكان نفسه، يحدّق معنا في امتلاء المعنى. يبحث معنا عن شيء لا يراه الأغبياء. الكرامة.

اليوم، في هذه الذكرى يعيش في حضوره. يسمعنا في صمته. نلمس أثره في خفقات قلوبنا. لا نراه في جسده المتبدل. نراه في روحه الثابتة. صوته يملأ المكان.

لا تبحثوا عن السيد في الدماء أو الصرخات. أنه في رائحة التراب بعد المطر، في هواء الصباح حين يلامس وجوهنا، في السنبلة التي تبقى رغم الريح.

لا تبكوا جسد السيد. الجسد انتهى، لكنه ما زال هنا، في كل قلب احتمل الفقد. ضريحه الحقيقي ليس في الأرض لا في الحفرة التي حُفرت له. القبر مكانٌ للصمت، لكنه لا يحوي الحكاية. الحكاية تعيش في قلوبنا. في تلك اللحظة حين نخشع فجأة بلا سبب، حين نتوقف في منتصف الطريق ونشعر بيد غير مرئية على كتفنا. هناك تجدون السيد.

الموت الذي عبره السيد لا يطلب منا الهرب منه، ولا العبادة له. يطلب فقط أن نحب الحياة الكريمة أكثر. أن نعانق أيامنا كما لو كانت آخر ما نملك. أن نعرف أن قيمة الضوء تأتي من اقتراب العتمة.

عشنا في عالم السيد برهةً، والآن علينا أن نعيش في عالمه طويلًا. فلنكن كما كان. صامدين، بلا هروب، بلا خوف، بقلوب مفتوحة لكل لحظة.

هو هنا. لا ترونه، ولا تلمسونه، لكنه حاضر. كلما حاولنا النسيان، وكلما أصغينا إلى صمته نجده. السيد الذي كان، وما زال، إنسانًا يعبر فينا وبيننا.
روني ألفا