من وعد بلفور الى اعترافات اوروبا : خيانات مُتكررة
سارة براهمي
مرة أخرى، يلوّح العالم بما يسميه “شرعية دولية”، ومرة أخرى، يُترك الفلسطينيون وحدهم في مواجهة الاستعمار. سلسلة الاعترافات الأوروبية الأخيرة بالدولة الفلسطينية تبدو، في ظاهرها، خطوة تقدمية. لكن ما وراء هذا الخطاب ليس سوى قناع جديد يخفي عجزًا قديمًا، أو بالأحرى تواطؤًا مستمرًا.
إن الاعتراف بدولة فلسطين اليوم، في لحظة تتساقط فيها القنابل على غزة ويتسع جوعها، ليس سوى رشوة سياسية للضمير الغربي المرهق من صور الدم. اعتراف على الورق بدولة غير موجودة، بينما الدولة الوحيدة القائمة فعلًا هي دولة الاستعمار الإسرائيلي بكل أدواتها: الجدار، الحصار، المستوطنات، والآلة العسكرية. أي عبثٍ هذا أن يُختزل نضال شعب تحت استعمار استيطاني إلى بيان صحفي يصدر من باريس أو لندن؟
الشرعية الدولية وُلدت مشلولة حين تعلق الأمر بفلسطين. فهي تقوى على فرض عقوبات على روسيا، وتتهاوى أمام إسرائيل. هنا يظهر بوضوح منطق القوة الكامن في النظام العالمي: الغرب يملك أدوات العقاب، لكنه يختار استخدامها انتقائيًا، في وجه خصومه فقط، بينما يغض الطرف عن جرائم حليفه المدلل. بهذا المعنى، الاعتراف بدولة فلسطينية هو بحد ذاته تكريس للاستعمار؛ لأنه يقدّم بديلًا رمزيًا عن المحاسبة، ويمنح إسرائيل المزيد من الوقت لتكريس واقعها الاستيطاني على الأرض.
إن الاستعمار ليس فقط وجود جنود ومستعمرات، بل هو أيضًا خطاب يفرغ القضية من جوهرها. حين تقول أوروبا إنها “تعترف بدولة فلسطين”، فهي تحوّل القضية من مسألة تحرر وحق أصيل في الأرض إلى مجرد نزاع حدودي قابل للتفاوض. هذا الاعتراف يعيد إنتاج الرواية الصهيونية التي تتعامل مع فلسطين كأرضٍ قابلة للتقاسم، لا كوطنٍ مسلوب يجب استعادته.
على المستوى العاطفي، يصعب قبول هذه الازدواجية: في غزة أطفال يموتون جوعًا، بينما في بروكسل يوقّع دبلوماسيون على بيانات مُموهة بالابتسامات. أي إنسانية تلك التي تظن أن الجائع يشبع بالتصريحات؟ وأي عدالة تلك التي تقيس الدم الفلسطيني بمسطرة المصالح الغربية؟
إن الحل لا يكمن في اعترافات رمزية، بل في فعل سياسي حقيقي: مقاطعة، عقوبات، محاسبة جنائية. الاستعمار لا يسقط بالبيانات، بل حين يدفع ثمنًا لجرائمه. كل ما عدا ذلك، مجرد تجميل لوجهٍ قبيح.
الفلسطينيون لا يطلبون من العالم اعترافًا بوجودهم على اعتبار ان وجودهم أعرق من دول أوروبا مجتمعة. ما يطلبونه هو أن يتوقف العالم عن التواطؤ مع من يسلبهم حقهم في الحياة و تقرير المصير، فالاعتراف بلا مساءلة ليس سوى خيانة جديدة، تضاف إلى سجل طويل من الخيانات التي بدأت منذ وعد بلفور ولم تنته بعد.
إنها لحظة فارقة: إما أن يختار العالم مواجهة الاستعمار كما هو، دون مواربة، وإما أن يبقى أسير بياناته الباردة، متواطئًا في جريمة تاريخية تُرتكب على مرأى الجميع.