كتب عبد الباري عطوان :
“تحتل “سورية الجديدة” العناوين الرئيسية في التحركات السياسية والاستراتيجية الإقليمية والعالمية هذه الأيام في إطار الجهود الامريكية الإسرائيلية المبذولة حاليا من أجل تغيير خرائط المنطقة السياسية والجغرافية والعسكرية لتصنيع الشرق الأوسط الجديد، ونشرح أكثر بالتوقف عند تطورين رئيسيين:
الأول: إعلان وكالة الانباء السورية الرسمية (سانا) امس الأول وللمرة الاولى عن لقاء مباشر جمع بين السيد أسعد الشيباني وزير خارجية سورية، ونظيرة الإسرائيلي رون ديرمر وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي في باريس برعاية توماس براّك مبعوث الرئيس الأمريكي الى لبنان وسورية.
الثاني: اعتراف “الجيش الإسرائيلي” في بيان رسمي أصدره اليوم بوقوع “حادث” عملياتي في موقع عسكري إسرائيلي في جبل الشيخ في الجولان السوري المحتل حديثا، أثر انفجار قنبلة يدوية أدى الى إصابة 7 جنود بينهم 4 في حالة خطرة جدا، وتم نقل جميع المصابين الى مستشفى “زيف” في مدينة صفد المحتلة جنوب الجليل، فهل بدأت المقاومة الوطنية السورية عملياتها؟
اذا بدأنا بالحدث الأول، فإنه يعني “إشهار” بدء التطبيع الرسمي السوري الإسرائيلي، وإعلان اللقاء ومن قبل الوكالة الإخبارية السورية الرسمية هو فتح أبواب هذا التطبيع على مصراعيه، ومن غير المستبعد ان تكون هذه الخطوة التي توصلت الى العديد من التفاهمات الأمنية والسياسية بين الجانبين مقدمة تمهيدية للقاء القمة المنتظر بين رأس النظام السوري الجديد احمد الشرع (الجولاني سابقا) وبنيامين نتنياهو “رئيس الوزراء الاسرائيلي” في نسخة محدّثة للقاء كامب ديفيد، وقمة مطبعي أوسلو وسلام ابراهام في البيت الأبيض والقائمة طويلة.
من المؤكد ان هذا الاجتماع السوري الإسرائيلي لم يكن الأول، فقد حدثت لقاءات في السابق وصفت بأنها سرية، او غير مباشرة، في باريس وباكو عاصمة أذربيجان، ولكن الجديد في هذ اللقاء الباريسي هو “المجاهرة” بإرتكاب إثم التطبيع من قبل الجانب السوري، ومن قبل قيادة تتزعم تنظيما كان يرفع راية الإسلام السياسي المتشدد جدا، ويكفّر كل التنظيمات الأخرى، والأهم من ذلك ان النظام السوري الجديد حظي ليس بدعم معظم، ان لم يكن كل الأنظمة العربية الحاكمة، وانما أيضا من قِبل بعض التنظيمات الإسلامية الأخرى، وعلى رأسها حركة “الاخوان المسلمين”، وقد احسنت بعض قياداتها وكوادرها صنعا عندما سارعت، وبعد تطبيع سورية في باريس بإدانة هذه الخطوة، والتبرؤ منها، واعتبار التطبيع خيانة، وذلك في تصريحات لهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
الاتفاقات الأمنية التي جرى التوصل الى أكثر من 85 بالمئة من بنودها في لقاء باريس حسب البيانات الرسمية أخطر بكثير من أي قمة تطبيع رئاسية، لانها تعني تنسيقا أمنيا ثنائيا في العديد من القضايا الأمنية الإقليمية وخاصة في لبنان، والعراق، واليمن، وايران، وغزة، والقضاء وباختصار شديد على المقاومة ضد المشروع الإسرائيلي.
لا نعرف ما صحة الأنباء التي نشرتها بعض الصحف العربية نقلا عن مواقع ومحطات فرنسية، تحدثت عن بحث جدي خلال لقاء باريس لموضوع تهجير مئات الآلاف من أبناء قطاع غزة الى سورية، وتأكيد المبعوث الأمريكي الراعي، بأن بلاده مستعدة لتمويل ونقل هؤلاء اللاجئين برا او بحرا، ولكن هناك مؤشرات عديدة تجعلنا لا نستبعدها كليا، فسورية كانت مطروحة من اليوم الأول لاستيعاب المهجّرين من أبناء القطاع، مضافا الى ذلك ان إسرائيل وامريكا تملكان أوراق ضغط قوية على “سورية الجديدة” ويكفي الإشارة الى ان الحصار الأمريكي الذي يحمل اسم “قيصر” ما زال ساري المفعول ولم يتم رفعه حتى الآن، رغم مرور أكثر من سبعة أشهر على سقوط النظام السوري السابق، الذي جاء هذا الحصار لإضعافه وقاعدته ومن ثم إسقاطه.
اما التطور الثاني الذي تتكتم دولة الاحتلال الاسرائيلي على تفاصيله الحقيقية، وتشاركها حكومة سورية الجديدة الشيء نفسه، يؤكد ان المقاومة السورية الوطنية الشريفة للاحتلال الإسرائيلي لسورية ولمسيرة التطبيع في سورية والمنطقة قد بدأ عمليا وبقوة ويمكن رصد مؤشراته في النقاط التالية:
الأول: الرواية الاسرائيلية التي تتحدث اليوم عن حدوث الانفجار نتيجة تعاطي “قوات إسرائيلية” مع قنبلة يدوية قديمة في أحد قواعد الجيش السوري السابق في جبل الشيخ غير دقيقة، فإصابة 7 “جنود إسرائيليين” أربعة منهم اصابتهم خطيرة جدا لا يمكن ان يحدث هذا العدد الضخم من الإصابات من إنفجار قنبلة قديمة، مضافا الى ذلك ان “الجيش الإسرائيلي” يملك آلاف الخبراء القادرين على تفكيك هذه القنبلة القديمة المتخلفة بسهولة ويسر.
ثانيا: اعتراف “الجيش الإسرائيلي” بقتل عدد افراد الخلية المهاجمة لقواته، واعتقال اعداد اخرى ومصادرة أسلحة كانت لديهم، والتهمة المعلنة كانت تهريب أسلحة للبنان دون إعطاء أي تفاصيل، ولكن الحقيقة اكبر من ذلك.
ثالثا” تأكيد بيان “الجيش الإسرائيلي” ان قوات الفرقة 210 التابعة للواء الجبال 810 قامت بعملية اقتحام لعدد من قواعد “الكوماندوز” التابعة للنظام السوري السابق في منحدرات قمة حرمون (جبل الشيخ) في سورية، وتم العثور على 300 وسيلة قتالية تمت مصادرتها.
رابعا: لوحظ ان الجيش الإسرائيلي اعلن اعتقال عدد من المواطنين السوريين في الأسابيع الماضية بتهمة الاتجار بالأسلحة، وإيصال دفعات الى حزب الله عبر الحدود السورية اللبنانية، وأعلن افخاي ادرعي المتحدث باسمه انه جرى اعتقال تاجر أسلحة جنوب سورية، وهذا الإعلان دليل حراك أوسع من تهريب أسلحة، وهناك مصلحة أمريكية “جولانية” للعمل سويا لمواجهته.
***
ختاما نقول ان التطبيع يتأكد بين سورية و”إسرائيل” برعاية أمريكية، ومباركة تركية وعربية، والنظام السوري الجديد جاء الى الحكم بدعم رباعي امريكي اسرائيلي تركي عربي من أجل احياء المخطط الإسرائيلي القديم المتجدد في القضاء على القضية الفلسطينية، وإجتثاث ثقافة المقاومة للاحتلال الإسرائيلي، والهيمنة الامريكية من جذورها، وربما يفيد التذكير بأن أهم اهداف هذا المخطط غير المعلنة هو تحويل طوق دول المواجهة السابق الطيب الذكر الى طوق للدول المطبعة الحامية للكيان الصهيوني، فبعد كامب ديفيد، أوسلو، ووادي عربة، لم يبق الا ثغرتين في هذا الطوق لا بد من سدهما ليكتمل الطوق التطبيعي وهما سورية ولبنان، الثغرة الأولى تطبع بسرعة، والثانية في الطريق وطبختها على النار حاليا.
التطبيع خيانة، كان وسيظل كذلك، ومن يقدم عليه، ويوقع معاهدات تشرعه، يرتكب هذا الإثم، ويخرج من الملة وسيواجه عقابا عسيرا في الدنيا والآخرة، والمقاومة العربية الإسلامية السورية عائدة، وبقوة، والبداية ربما بدأت في جبل الشيخ السوري الشامخ.. والايام بيننا.