أعاد نتنياهو طرح رؤيته لما تُسمى بـ”إسرائيل الكبرى”، في تصريحات صريحة أثارت موجة غضب عربي واسع، لما تحمله من تهديد مباشر للأمن القومي الإقليمي.

وخلال مقابلة مع قناة “آي 24 نيوز” العبرية، قال نتنياهو إنه “في مهمة تاريخية وروحانية” مرتبطة برؤية توسعية تمتد من فلسطين إلى الأردن ومصر وسوريا ولبنان، وصولاً إلى السعودية والعراق، واصفاً ذلك بـ”رسالة الأجيال”.

وأظهرت المقابلة تلقيه خريطة تضم أراضي فلسطينية وأجزاء من دول عربية، مؤكداً موافقته عليها “بشدة”.

يرى خبراء الشأن الإسرائيلي أن تصريحات نتنياهو الأخيرة ليست انفعالاً شخصياً أو مجرد دعاية انتخابية، بل امتداد مباشر لنهج أيديولوجي صهيوني متجذر، يستند إلى أفكار زئيف جابوتنسكي، مؤسس التيار “التصحيحي” في الحركة الصهيونية، الذي دعا منذ عشرينيات القرن الماضي إلى إقامة دولة يهودية على ضفتي نهر الأردن، وفرض السيطرة بالقوة على كامل المنطقة بين النهر والبحر وما وراءهما.

عقيدة نتنياهو السياسية ويشير المختصون إلى أن نتنياهو، الذي نشأ في بيئة سياسية متأثرة مباشرة بمدرسة جابوتنسكي، لطالما تجنب الإفصاح العلني عن هذه الرؤية في المحافل الدولية، مكتفياً بتلميحات في خطابات مغلقة أو أمام جمهور اليمين الإسرائيلي.

إلا أن وزراء في حكومته – مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش – سبق أن عبّروا عنها بوضوح في السنوات الأخيرة؛ فقد دعا بن غفير مراراً إلى تهجير الفلسطينيين من الضفة وغزة، وتحدث عن “السيادة اليهودية” على الحرم القدسي، فيما طرح سموتريتش خرائط توسعية تشمل أجزاء من الأردن وسيناء، وصرّح عام 2017 بأن “إسرائيل يجب أن تمتد إلى حيث تصل سيطرة جيشها”.

هذه التصريحات المتكررة من أقطاب حكومة الاحتلال مهّدت الطريق لنتنياهو ليكشف، لأول مرة بهذا الوضوح وعلى منبر إعلامي دولي، عن تبنيه الكامل لرؤية “إسرائيل الكبرى”، مؤكداً أنها ليست فكرة هامشية يتداولها متطرفون، بل عقيدة سياسية جامعة لليمين الإسرائيلي الحاكم.

إدانات متوالية حازمة أثارت تصريحات نتنياهو الأخيرة موجة إدانات حازمة من قوى ودول عربية، رأت فيها تجسيدًا لمخاطر المشروع التوسعي الإسرائيلي على الأمن القومي للمنطقة.

في لبنان، اعتبر ممثل الأمين العام لحزب الله، علي جابر، أن ما أعلنه نتنياهو هو نتيجة طبيعية لـ”حالة العجز والصمت والتواطؤ” العربي إزاء المجازر المتواصلة في غزة، والعدوان الإسرائيلي المستمر على لبنان منذ أشهر.

وحذّر جابر من أن استمرار الموقف العربي الضعيف لن يوقف شهية الاحتلال، بل سيدفعه لفرض وقائع جديدة على الأرض، وصولاً إلى مواجهة مباشرة مع الدول العربية، مؤكداً أن إسرائيل لا تعترف بأي صيغة سلام وأن “عينها دائمًا على الحرب”، وأن الرهان الحقيقي يجب أن يكون على المقاومة وتوحيد الصف العربي والإسلامي، باعتبارها خط الدفاع الأول عن الأمة.

وفي الأردن، شدّد وزير الداخلية الأسبق سمير حباشنة على ضرورة إحياء مجلس الدفاع العربي المشترك الذي أُنشئ عام 1950، ليكون إطارًا عمليًا لمواجهة الأطماع الإسرائيلية، خاصة تجاه دول الطوق. ووصف حباشنة حكومة نتنياهو بـ”المارقة” التي تخلّت عن خطاب “الضحية” لتتحول إلى دولة “مجرمة قاتلة” لا تتورع عن تهديد أي بلد في المنطقة.

وأضاف أن إسرائيل باتت تسيطر على مصادر المياه الخاصة بأربع دول عربية، ما يجعلها تملك أوراق ضغط استراتيجية خطيرة، محذرًا من احتمال شنها حربًا مباغتة على أي دولة إذا وجدت الفرصة سانحة.

أما في مصر، فقد حذّر السفير حسين هريدي، مساعد وزير الخارجية الأسبق، من أن المنطقة تقف على أعتاب “نكبة ثالثة” إذا لم تتخذ الدول العربية مواقف حازمة لوقف المشروع التوسعي الإسرائيلي.

وأوضح أن الخطر لم يعد يهدد الفلسطينيين وحدهم، بل يمتد إلى شعوب عربية أخرى قد تتعرض لعمليات تهجير أو مصادرة أراضٍ، كما حدث في نكبة 1948 ونكبة غزة.

واعتبر هريدي أن تصريحات نتنياهو تكشف البعد العقائدي للحرب الإسرائيلية، داعيًا الدول المطبّعة مع تل أبيب إلى إعادة النظر في سياساتها، لأن استمرار التطبيع في ظل هذه التهديدات لن يحميها من أن تكون هدفًا مباشرًا في المستقبل.

خط الدفاع الأول  يرى الكاتب والمحلل السياسي إياد القرا أن تصريحات نتنياهو الأخيرة تمثل “إعلانًا صريحًا” عن مشروع توسعي يمتد من فلسطين إلى الأردن ومصر وسوريا، وصولًا إلى السعودية والعراق، مؤكداً أن هذا المشروع ليس مجرد حلم أيديولوجي، بل خطة سياسية وعسكرية يجري العمل على تنفيذها منذ سنوات.

وأوضح القرا أن أخطر ما في خطاب نتنياهو هو ربطه بين الحرب على غزة والمشروع الأوسع لـ”إسرائيل الكبرى”، إذ يرى أن أي انتصار إسرائيلي – مهما كان محدودًا – في غزة سيُستثمر كمنصة للانتقال إلى مرحلة جديدة من التوسع، تبدأ بتصفية المقاومة الفلسطينية، وتمر بتغيير الوضع الجغرافي والسياسي في الضفة الغربية، قبل التفرغ لاستهداف الأردن وسيناء.

وأضاف أن التهديدات التي يطلقها وزراء الاحتلال ضد مصر والأردن، إلى جانب التصعيد في سوريا ولبنان، تكشف أن غزة ليست سوى الساحة الأولى في سلسلة ساحات مستهدفة.

أما المحلل السياسي إبراهيم المدهون، فيصف نتنياهو بأنه “شخصية أيديولوجية بامتياز” توظف الدين لخدمة مشروع توسعي أكبر من حدود فلسطين التاريخية، مع تركيز خاص على سيناء باعتبارها هدفًا استراتيجيًا في أي مرحلة قادمة.

ويؤكد المدهون أن نتنياهو يسعى إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط ليجعل من إسرائيل قوة مهيمنة إقليميًا، مستندًا إلى إرث تاريخي يضعه في مصاف “القادة الكبار” في الذاكرة الصهيونية.

إنذارًا واضحًا وشدد المدهون على أن تصريحات نتنياهو تمثل إنذارًا واضحًا لدول الطوق، وخصوصًا مصر، مشيرًا إلى أن قطاع غزة ومقاومته يشكلان خط الدفاع الأول عن أمنها القومي.

ويرى أن فشل الاحتلال في حسم المعركة مع غزة لن يوقف طموحاته، لكنه سيؤجل تنفيذ مخططاته تجاه سيناء، ما يجعل دعم المقاومة الفلسطينية ضرورة استراتيجية عربية، لا مجرد تضامن معنوي.

كما لفت إلى أن استخدام نتنياهو لمصطلحات “تاريخية” و”روحانية” يهدف إلى شحن الداخل الإسرائيلي لمعركة وجودية، وإرسال رسائل ردع مبطنة لدول الجوار بأنه مستعد لتغيير الحدود بالقوة.

وحذر من أن إسرائيل، وفق هذا الخطاب، غير معنية بالتهدئة أو المفاوضات، وإنما تعتبرها غطاءً مؤقتًا لخطط أكبر تشمل اجتياح غزة، وتسريع تهويد المسجد الأقصى، وربما هدمه وبناء الهيكل المزعوم، في خطوة غير مسبوقة من حيث وضوح الإعلان عن الأهداف.

خذلان غزة  يُجمع محللون وخبراء في الشؤون الإقليمية على أن خذلان غزة – سياسيًا وعسكريًا وإعلاميًا – كان عاملاً حاسمًا في جرأة رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو على طرح مشروعه التوسعي علنًا، وفي توقيت بالغ الحساسية.

فالصمت العربي الرسمي، والاكتفاء بإدانات دبلوماسية دون خطوات ردع فعلية، منح نتنياهو شعورًا بامتلاك “ضوء أخضر” غير معلن للمضي في تنفيذ ما يسميه “المهمة التاريخية”، وكأنه يتحرك في فراغ استراتيجي عربي.

ويؤكد المراقبون أن المقاومة الفلسطينية في غزة، بصمودها الميداني وقدرتها على استنزاف آلة الحرب الإسرائيلية، تمثل اليوم آخر جدار صد عربي حقيقي أمام التمدد الصهيوني.

فبقاء غزة صامدة يعني تعطيل مشروع نتنياهو وإبقاء حدوده تحت الضغط، أما سقوطها – لا قدر الله – فسيفتح الطريق أمام الاحتلال للتفرغ لتصفية القضية الفلسطينية في الضفة، ومن ثم التوجه نحو دول الطوق، وفي مقدمتها الأردن ومصر.

ويحذر خبراء من أن استمرار حالة الانقسام العربي، وغياب استراتيجية موحدة لدعم غزة، لا يضعف المقاومة فقط، بل يضعف الموقف التفاوضي والسياسي لكل دولة عربية مهددة مستقبلاً.

فالمعركة الدائرة ليست دفاعًا عن مدينة ساحلية محاصرة، بل دفاع عن الحدود الشرقية والجنوبية للعالم العربي، وعن الأمن القومي من المحيط إلى الخليج.

ويذهب بعض المحللين إلى القول إن كل يوم تصمد فيه المقاومة الغزية يضيف سنوات إلى عمر الاستقرار الإقليمي، بينما أي تراجع أو انهيار فيها سيختصر المسافة الزمنية أمام “إسرائيل الكبرى” لتصبح واقعًا جغرافيًا وسياسيًا مفروضًا على المنطقة.

ولهذا، فإن دعم غزة – بالسلاح والمال والموقف السياسي – ليس خيارًا أخلاقيًا فحسب، بل ضرورة استراتيجية عاجلة، إذا أراد العرب تجنب الدخول في مواجهة مباشرة مع مشروع احتلالي أكبر من فلسطين.

معركة أوسع من غزة التصريحات الأخيرة لنتنياهو لم تعد تترك مجالًا للإنكار أو الالتفاف على الحقائق؛ فالحرب الجارية ليست مجرد ردّ على عملية “طوفان الأقصى”، ولا هي مواجهة محدودة بحدود قطاع غزة، بل هي فصل مركزي في مشروع استعماري عقائدي يسعى إلى إعادة رسم الخريطة السياسية والهوية الثقافية للمنطقة بأكملها.

إن ما يُسمّى بـ”إسرائيل الكبرى” ليس خيالًا سياسيًا، بل خطة متكاملة تتدرج من ابتلاع ما تبقى من الأرض الفلسطينية، إلى التمدد شرقًا وغربًا وجنوبًا، لتطال دول الطوق ومفاصل الأمن القومي العربي. وعليه، فإن ما يجري اليوم في غزة ليس معركة طرف محاصر، بل خط الدفاع الأول عن كل عاصمة عربية تقع على خطوط هذا المشروع.

فكل شبر يسقط هناك، يفتح ثغرة على حدود دولة عربية أخرى، وكل تهاون أو تردد في مواجهته يختصر المسافة نحو كارثة إقليمية قد تغيّر وجه الشرق الأوسط لعقود قادمة.

لقد بات واضحًا أن الخطر الصهيوني عابر للحدود والخرائط، وأن مواجهة هذا المشروع ليست خيارًا تضامنيًا أو التزامًا قوميًّا فحسب، بل ضرورة وجودية تمسّ بقاء الدول والشعوب ذاتها.

إن غزة اليوم ليست مجرد جبهة مقاومة، بل هي ساحة اختبار لإرادة أمة بأكملها: إما أن تصمد وتنتصر، أو أن يفتح سقوطها الباب لزمنٍ عربي جديد، تتصدّره خرائط الاحتلال وحدود القوة الصهيونية.شهاب

شهاب