المجاعة في غزة.
بقلم محمد علي أحمد القباطي.
في زمن تتسارع فيه الأحداث، وتتصاعد فيه الأزمات الإنسانية، تقف مأساة أهل غزة بكل أبعادها شاهدةً على تحديات الإنسان المعاصر. المجاعة التي ألمّت بأطفال غزة ليست مجرد كارثة محلية، بل هي انعكاس لواقع عالمي يختبر فيه الإنسان توازنه بين الرحمة والأنانية، بين الحق والباطل. في هذا المقال، نسلط الضوء على أسباب هذه المأساة، وتداعياتها، والدروس التي يجب أن نستخلصها كأمم وشعوب.
كل مخلوق يعيش في هذه الدنيا بقدر، وما شهدناه من مجاعة أهل غزة شيء نراه بأعيننا، وليس من إرادة الله، بل هو نتيجة الابتعاد عن التعاليم الإلهية، وما كسبت أيدي الناس من ظلم وجور أدى إلى هذا المصاب. كنا نقول سابقًا: ما أحد يموت من الجوع، وها هو اليوم الذي شهده العالم في موت الأطفال، وهو سبب ظهور الفساد في البر والبحر، كما قال الله تعالى:
{ ظَهَرَ اَ۬لْفَسَادُ فِے اِ۬لْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِے اِ۬لنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ اَ۬لذِے عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَۖ ).سُورَةُ الرُّومِ: ٤٠]
ظهر ذلك في عصرنا، عصر التكنولوجيا والتقدم والإنسانية، لكنه أيضًا عصر الانحطاط والتراجع.
نحن نهدم الحضارة الوهمية التي ندعيها، وهي كذبة ستُسجل علينا إلى يوم القيامة. موت الأطفال جوعًا هو اختبار من الله للبشر جميعًا، ليميز الخبيث من الطيب. دخلنا عالمًا فيه اختبارات جماعية، عالمية كما نسميها، وهذه الاختبارات عبارة عن زلازل، براكين، حروب، مجاعات… كلها نتيجة لأفعالنا نحن البشر. كلما ابتعدنا عن المنهج، ازدادت قسوة الاختبارات.
في الأمم السابقة، أخبرنا الله أن فرعون قتل كل طفل يولد في عام ما، لأن المنجمين والعرافين أخبروه أن هناك طفلًا سيولد في ذلك العام وسيكون سببًا في إزالة ملك فرعون، وحصل ذلك فعلًا. رغم أن فرعون قتل كل طفل ذكر من بني إسرائيل، ولما كان بني إسرائيل في ذلك الزمان مشهورين بالجبن والسلبية، اشتد عليهم العذاب حتى وصفهم المولى عز وجل بقوله:
(يَقْتُلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنَ اللَّهِ عَظِيمٌ).
وفي عالمنا العربي والإسلامي اليوم، يوصفون بنفس السلبية والجبن، وأخشى ما أخشاه أن يصلوا إلى (بَلَاءً مِن رَّبِّكُمْ عَظِيمٍ).
حينها سيعاد السيناريو من جديد، كما في الفترة السابقة، والله وحده يعلم ما لم نعلم. إذا لم يغير الناس ما في أنفسهم، سيذوقون من نفس الكأس، وسيُسألون يوم القيامة: ماذا فعلتم بما أعطيتكم من عتاد وقوة لنصرة هؤلاء الأطفال الجوعى؟ سيكون هذا السؤال لكافة البشر في هذا العصر، وسيحاسب المسلمون وغيرهم من المسيحيين والمجوس واللادينيين. هناك من الناس سيقول: “يا رب استنكرت ذلك وقدمت ما أستطيع فعله”، وهناك من سيقول: “أطعنا ساداتنا وكبرائنا فضلونا السبيل”. كل ذلك سيأتي يومًا ما، لأنه نتيجة فعل السلبية التي نتصف بها.
قد يقول قائل: “ياليتني، حتى ولو استنكرت هذا الفعل، كنت سأقول لله عز وجل: يا رب أنا فعلت كذا”. ولكن للأسف، قد (عميت عليهم القلوب)، فهم لا يستطيعون تمييز الحق من الباطل، وهذه فتنة آخر الزمان حيث تأتي الذنوب فتطمس على قلوبهم.
فما أقول لهم إلا: قريبًا سيصيبكم ما أصاب بني إسرائيل أمام فرعون.
يقول الله عز وجل:
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وبالنسبة لموقف الدول، قال الله عز وجل:
(يَوْمَ يَأْتِي كُلُّ أُمَّةٍ بِإِمَامِهَا).
حينها ستقول اليمن: “الحمد لله الذي ميزنا الله بفضله منذ سنين ونحن تنتهك حرماتنا ويقتل رجالنا، والعالم يصدق كذب أمريكا وإسرائيل أنَّنا خارجون على الشرعية”.
وهذه الشرعية، الحمد لله، التي علمت بنفوسنا وفكنا منها، ونحن بريئون من شرعية أمريكا هذه. وبالمواقف تعرف الرجال، فقد عبر أبناء اليمن عن موقفهم، ولله الحمد الذي وفقهم، لأن ما يفعلونه الآن هو ما سيقولونه غدًا لخالقهم: (لستم وحدكم). ربنا ما خلق هذا باطلاً، فَقِنا عذاب النار.
موت الأطفال من الجوع أشد من موتهم بالحرب، لأن من كان له قلب سيشعر بالفرق، ولكن أن يسكت الناس سينالهم اختبار أصعب.
فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس…
وللعلم، منذ بدأ التصنيع العسكري يتطور، وأمريكا تدخل حروبًا، وكل حروبها خاسرة، حتى حرب العراق. يقول كتاب ومفكرون أمريكيون إن الغلطة الوحيدة التي ارتكبتها أمريكا كانت في حربها للعراق وأفغانستان، حيث سمحت لقوى عظمى في العالم بأن تقول لنفسها: إن الدور قد جاء عليها، وعملت على تطوير ترسانتها النووية مثل الصين وروسيا وكوريا الشمالية. هذا مما مكنهم للمنافسة على زعامة العالم، وخسرت أمريكا الإرث العظيم للغرب الذي استلمته من بريطانيا بعد الحرب العالمية، في زعامة العالم. فكل ما تفعله يصل إليك، وكل ما تقوم به يرجع إليك بنفس الصورة أو أكبر.
فنظرية “الفوضى” أو “الفراشة” تقول: إن أي شيء يحدث في الأرض لا يحدث صدفة، وإنما يحدث نتيجة لأسباب حتى لو كانت صغيرة جدًا. ضرب مثالًا لذلك بجناح الفراشة: إذا رفرف في بلد مثل أمريكا، بعد فترة من الزمن يحصل إعصار في اليابان أو أي دولة أخرى. فما يحصل من حصار وتجويع سيصيب كل متخاذل وجبان، والأيام ستبرهن ذلك.
فكما أهلك الله الديناصورات الذين فسدوا في الأرض – هذا إذا كان هناك ديناصورات أصلًا – فإن الله لكل متكبر جبار في المرصاد، وكل من عاونهم، وكل من ساندهم.
ستعلمون غدًا أنكم رسبتم في هذا الاختبار الذي اختبركم الله به، وستظهر النتيجة لهذا الرسوب والفشل بمجاعات وابتلاءات من نفس النوع، أو قد تكون أشد من ذلك.
فالشان العالمي للناس صار فيه سواء، وما يصيب أمة سيصيب الفرد، والبوابة لذلك هو طوفان الأقصى.
الخاتمة:
إن مأساة غزة ليست مجرد حدث عابر، بل هي صرخة تاريخية تذكرنا بضرورة العودة إلى المبادئ والقيم التي تحفظ كرامة الإنسان وتحميه من الفناء. علينا أن نعيد النظر في مواقفنا وأفعالنا، وأن نكون على قدر المسؤولية تجاه إخوتنا وأطفالنا الذين يعانون الجوع والقتل. فالاختبار ليس لهم وحدهم، بل لنا جميعًا، وسيأتي اليوم الذي لن يُسأل فيه أحد عن ظروفه، بل عما قدمه من عمل ونصرة للحق والإنسانية.
والله على ما أقول شهيد.