هل كل من يناهض حكومة نتنياهو أو إحدى سياساتها مناهضٌ للصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية؟
تحتكم سياسة الكيان الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني، في علاقته مع المحيط الذي فُرِض عليه، إلى عاملين وجدانيين نقيضين، لكنْ متكاملين، لطالما حكما موقف أهل الغيتو من “الأغيار” خارجه. فأهل الغيتو “يحلمون”، من جهة، أن يُقْبِلَ عليهم ذلك المحيط بسرور، كما يُقبل الرضيع على لقاء أمه. لكنهم، من شدة توجسهم منه، لا يستطيعون أن يطمئنوا ويرتاحوا تماماً إلا إذا أضعفوا ذلك المحيط وفككوه وعوّموا أشلاءه على سطح تيارات مبعثرة تلتقي أحياناً وتتصادم أحياناً أخرى، لكنها تقود جميعاً إلى “تل أبيب”.
تنبثق بوصلة الاتجاهات الأساسية السائدة إذاً، في مسألة العلاقة مع المحيط، من تفاعل هذين الضدين المتحدين داخل العقل الاستراتيجي الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني، انعكاساً لحسٍ جمعيٍ منقسمٍ موحدٍ حولهما كطريقين لـ”تقبّل” منظومة الاحـ.ـتـ.ـلال الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني، أو لفرض “الرضا” بها فرضاً.
فهناك، من جهة، صـ.ـهـ.ـاينة يحاولون إغواء المحيط بـ”خطاب السلام” و”ثماره”، الأمر الذي يتطلب منه تخفيض سقفه سياسياً، من القبول بـ”حل الدولتين”، إلى “مراعاة المخاوف الأمنية” للكيان الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني، مروراً بـ”محاربة المتطرفين الرافضين لحق إسرائيل في الوجود”، أو “المعادين للسامية”.
وهنالك، من جهة أخرى، صـ.ـهـ.ـاينة يرون ما يراه نيكولو ميكافيلي في كتاب “الأمير”، من أن الخوف أجدى من الحب كأداة لسياسة القطيع. لذلك، على السائس أن يُفْرِطَ في البطشِ إذا بَطَشَ، وأن يوزع جوائز الرضا بالقطعة وتدريجياً، لا بالجملة، ما بين جولات البطش والتنكيل.
لكنّ هذين ليسا تيارين منفصلين، بل يشبهان العصا والجزرة، وهما يغذيان بعضهما بعضاً، والقاسم المشترك بينهما هو الحرص على أمن اليـ.ـهـ.ـود عموماً، و”إسرائيل” خصوصاً.
على سبيل المثال، ترى “وول ستريت جورنال”، في تقريرٍ لها في 26/7/2025، أن “إسرائيل” تشعر حالياً بفائض قوة نتيجة الإنجازات العسكرية التي حققتها في الفترة الماضية، وأن ذلك هو ما دفعها إلى التصعيد بصورة فاجأت الرئيس ترامب وأزعجته، في سورية، وخصوصاً قصف هيئة الأركان ومحيط القصر الرئاسي في دمشق، وقصف كنيسة اللاتين في غزة.
تدفع غطرسةُ القوةِ الصـ.ـهـ.ـاينة إذاً إلى الاتكال بصورة أكبر على استراتيجية “دعس” المحيط، وإلى تجاوز كل الخطوط الحمر والموازين التي يقتضيها إنشاء علاقة سلمية معه، في سياق “تلقينه دروساً” لا ينساها على مدى الأجيال.
يرى اليمين الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني إذاً أن إبقاء المحيط مرعوباً، وإفقاده كل عناصر القوة، وتقويض قدرته، أو قدرة أي كتلة مهمة فيه، على العمل جماعياً، هو الأضمن لتأمين “راحة بال” الكيان الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني استراتيجياً. ويمكن للمحيط، من بعد ذلك، أن يكره “إسرائيل” أو يحبها كما يشاء، ما دام يفتقد للقدرة على اتخاذ أي موقف جدي إزاءها في الحالتين.
نجد، في المقابل، رعباً دفيناً لدى قسم من اليـ.ـهـ.ـود، في الكيان الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني وخارجه، من رد فعل المحيط، و”الأغيار” عموماً، من جراء المجازر والتجاوزات المتفاقمة التي يرتكبها غلاة الصـ.ـهـ.ـاينة وغطرستهم، وكيف يمكن أن ترتد على اليـ.ـهـ.ـود عموماً في المدى الطويل في صورة كراهية عامة أو أعمال “مناهضة للسامية”، أو حتى مجازر، لها مكانتها التاريخية في العقل اليـ.ـهـ.ـودي العام.
ماذا لو أفلتت الأمور من أيدي الصـ.ـهـ.ـاينة لحظة، على غفلةٍ من التاريخ؟ ماذا سيفعل المحيط وأولئك “الأغيار” بهم، أو حتى بأحفادهم أو أحفاد أحفادهم، نتيجة مظالم تاريخية ما برحت تتوسع وتتعمق؟
من يتابع الحوار الداخلي، ويقرأ ما بين سطور خطاب حتى أشد الناقدين اليـ.ـهـ.ـود للممارسات “الإسرائيلية”، من المؤرخ المراجع توم سيغيف، أو نورمان فنكلستين، إلى أدبيات جمعية “بتسليم”، والتي أصدرت قبل أيام بياناً رسمياً يتهم “إسرائيل” بممارسة الإبادة الجماعية في غزة، نجد أن جوهر النقد يتعلق بتهديد السياسات “الإسرائيلية” لـ”أمن اليـ.ـهـ.ـود” وقدرتهم على العيش بسلام في فلسطين المحـ.ـتـ.ـلة أو خارجها.
تقول جمعية “بتسليم” مثلاً، المشتق اسمُها من سفر التكوين في التوراة، بحسب تعريفها لنفسها في موقعها، إن هدفها هو “تأمين مستقبل” للفلسطينيين واليـ.ـهـ.ـود الذين يعيشون “بين النهر والبحر”، وأن اسمها يعبر عن “المرسوم الأخلاقي العالمي واليـ.ـهـ.ـودي لاحترام حقوق الإنسان لكل الناس”. والفكرة هي إيجاد قناة لتقبل المحـ.ـتـ.ـلين الغاصبين في فلسطين المحـ.ـتـ.ـلة بعيداً من السياق الرسمي الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني.
كذلك تلتزم منظمة “ترواه” T’ruah، التي يقودها حاخامات يـ.ـهـ.ـود أمريكيون، ومقرها نيويورك، بالدعوة لاحترام حقوق الإنسان في أمريكا الشمالية و”إسرائيل” و”الأراضي الفلسطينية” (نعم، تعبير “الأراضي الفلسطينية” مصطلح تطبيعي لأنه تتمة لمصطلح “إسرائيل”).
منظمة “ترواه”، المستقى اسمها من أحد أصوات قرن الكبش (الشوفار) الذي يُنفَخ في الأعياد اليـ.ـهـ.ـودية، والتي تبلغ موازنتها بضعة ملايين من الدولارات سنوياً، تنتقد السياسات “الإسرائيلية” بشدة، وتدافع، في الآن عينه، عن “حق” الكيان الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني في الوجود.
لكنّ عنوان “حقوق الإنسان للجميع” يعني عدم التعرض لليـ.ـهـ.ـود فعلياً من جراء السياسات الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية، في مقابل استمرار الانتهاكات لحقوق “الأغيار” الذين يفترض أن يكفيهم إدانة بعض اليـ.ـهـ.ـود لبعضها، بشرط ألا “يتطرفوا” ويرفضوا “حق” الكيان بالوجود!
منظمة J-Street اليـ.ـهـ.ـودية-الأمريكية، في المقابل، تعد من أقوى تنظيمات اللوبي الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني في الولايات المتحدة، ومن أشد مناهضي حكومة نتنياهو، ولو بسقف أدنى قليلاً من “ترواه”. وهي معقل الصـ.ـهـ.ـاينة الليبراليين، وتخوض صراعاً مفتوحاً في صفوف اليـ.ـهـ.ـود في الولايات المتحدة يوازي صراع اليمين و”اليسار” في الكيان الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني.
وبحسب موقع المنظمة في الإنترنت، فإنها دعمت 122 مرشحاً لانتخابات مجلس النواب والشيوخ الأمريكيين سنة 2024، فاز منهم 116، أي 95%، وقدمت رسمياً 15 مليون دولار من التبرعات لهم، كما أدت دوراً مهماً في حشد أصوات اليـ.ـهـ.ـود خلف كامالا هاريس، منافسة ترامب، في الانتخابات الرئاسية.
ولا أثق في هذه الأرقام بصراحة بالنظر إلى أن الأرقام المعلنة للتبرعات التي تلقتها J-Street بلغ 4 ملايين دولار سنة 2023، و6.6 مليون دولار سنة 2024، على افتراض أنها لم تنفق على أي شيء آخر سوى دعم أولئك المرشحين، وأن موظفيها المتفرغين الـ 120 ومكاتبها ونشاطاتها الأخرى لم تكلف سنتاً واحداً. وجورج سورس، بالمناسبة، هو أحد كبار المتبرعين.
المهم، خطاب منظمة J-Street المناهض لحكومة نتنياهو وسياساتها، الملتبس كـ”نقد لإسرائيل” في بعض الدوائر، مكشوفٌ بصورة أكبر بين أنصار القضية الفلسطينية في الغرب، من جراء مناهضتها لحملات مقاطعة “إسرائيل”، وخوضها صراعاً في الجامعات الأمريكية إبان حرب غزة “ضد اليمين الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني واليسار المناهض للصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية… في آنٍ واحد، واحد!”، مع دفاعها عن حقوق الطلبة المحتجين ضد “إسرائيل” في مواجهة الإجراءات المتخذة ضدهم، ودعمها لاستمرار المساعدات الأمريكية للكيان الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني خلال العدوان على غزة ولبنان.
على الرغم من ذلك، فإن ما يهمنا في سياق هذه المقالة أن البرنامج السياسي لتلك المنظمة يعبر عن الفكرة ذاتها في تبنيها لخطاب “حل الدولتين” رسمياً: “إن حل الدولتين للنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي ضروري لبقاء إسرائيل كوطن قومي للشعب اليـ.ـهـ.ـودي وكديموقراطية نابضة بالحياة”، مع العلم أن “حل الدولتين” لديها مقيد بشروط كبيرة وكثيرة. لكنّها فكرة حزب كاديما (سابقاً) في الكيان الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني: لا بد من التنازل عن بعض “أرض إسرائيل التاريخية” من أجل الحفاظ على معظمها. ولا يتعلق الأمر هنا بأي حقوق للفلسطينيين، بل بضمان أمن “إسرائيل”.
يذكر أن منظمتي “ترواه” وJ-Street، ومنظمات يـ.ـهـ.ـودية على شاكلتهما، شكلت رافعة لتظاهرات ضد نتنياهو خلال زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة بين 22 و27 الشهر الفائت، جرى تداول صورها وفيديوهاتها كاحتجاجات ليـ.ـهـ.ـود ضد الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية، في حين أنها أقرب للصراعات المحتدمة داخل الكيان الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني، سياسياً وثقافياً، وبالتالي يصبح ترويجها بصفتها “مناهضة للصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية” تغييراً لمعنى تلك المناهضة جذرياً، أو تخفيض سقفها بشدة لدى أحرار العالم، لا عند العرب والمسلمين فحسب.
للتوضيح، وقبل أن إلقاء التهمة المعهودة بشأن “العداء للسامية” (في حين أن مصطلح “السامية” هو مصطلح توراتي، من سفر التكوين (10)، اخترعه مستشرقون، مثل شلوتزر وأيكهورن، في نهاية القرن الـ 18 الميلادي، للتعمية على هوية المنطقة العربية القديمة)، لا بد من الإشارة إلى أن اليـ.ـهـ.ـودي الذي يعيش خارج فلسطين، والذي لا يرتبط بشبكات صـ.ـهـ.ـيـ.ـونية، لا مشكلة لنا معه سياسياً.
كما أن إدراك طبيعة التناقضات في المجتمع “الإسرائيلي”، وحتى في صفوف الحركة الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية ذاتها، وبين التيارات المنتشرة في صفوف يـ.ـهـ.ـود العالم، بمقدار ما يعرّفون أنفسهم ككتل متمايزة عن المجتمعات التي يعيشون فيها، مهمٌ جداً في إدارة العمل السياسي، تماماً كما يعنى الغرب جيداً بفهم التناقضات في مجتمعات الجنوب العالمي، وكما يعنى الصـ.ـهـ.ـاينة بفهم التناقضات في المجتمع العربي، وكما يسعون إلى تسعيرها.
ثمة فرقٌ كبيرٌ طبعاً بين من يسعى لفهم التناقضات في صفوف اليـ.ـهـ.ـود والصـ.ـهـ.ـاينة، والتناقضات الإقليمية والدولية عموماً، من أجل إدارة مشروع تحرر، وبين من يسعى لفهمنا وفهم الجنوب العالمي لإدارة مشروع هيمنة واحـ.ـتـ.ـلال.
في جميع الأحوال، لا يجوز أن نقع في فخ تصنيف اليـ.ـهـ.ـودي المناهض لسياسات حكومة نتنياهو، أو اليـ.ـهـ.ـودي الذي لا يرى مشكلة في غزو فلسطين واحـ.ـتـ.ـلالها، أو في اعتبار أي جزء منها “وطناً لليـ.ـهـ.ـود”، حتى لو عدّ ممارسات “إسرائيل” خطراً حالياً أو مستقبلياً على اليـ.ـهـ.ـود أنفسهم، بصفته مناهضاً للصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية.
مثلاً، تجد في “ذا غارديان” البريطانية في 3/6/2025، مقالة لكاتبة يـ.ـهـ.ـودية، تزعم أنها يسارية، “يمكنك معارضة سياسات إسرائيل من دون قتل اليـ.ـهـ.ـود”، تعليقاً على سلسلة عمليات ضد منشآت يـ.ـهـ.ـودية في الولايات المتحدة في النصف الأول من هذا العام، كان من أبرزها مقتل موظفين في السفارة “الإسرائيلية” خارج المتحف اليـ.ـهـ.ـودي في واشطن، حيث كان تقيم “اللجنة اليـ.ـهـ.ـودية الأمريكية” (أحد أعمدة اللوبي الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني) فعاليةً في 22/5/2025.
تضيف كاتبة المقالة، جوآن مورت، ما يفيد المعنى ذاته بشأن ردة الفعل على جرائم “إسرائيل”: “لا يريد اليـ.ـهـ.ـود أن يستغلهم اليسار أو اليمين. لا نريد أن نكون بيادق تتقاذفها أيديهم. نريد أن نكون آمنين”.
في السياق ذاته، وبصورة أكثر وضوحاً، وعمقاً وخطورةً، لأن الكاتب، راز سيغال، هو أستاذ دراسات “المـ.ـحـ.ـرقة” والإبادة الجماعية في جامعة ستُكتون الأمريكية، نجد مقالة بعنوان “كيف يعرض توظيفُ معاداة السامية سياسياً اليـ.ـهـ.ـود للخطر؟”، في مجلة “تايم”، في 14/5/2024، يحذر كاتبها بشدة من ربط “معاداة السامية” بمعارضة سياسات “إسرائيل”، لأنها تحمّل اليـ.ـهـ.ـود أجمعين عبء تلك السياسات، وبالتالي تعرضهم للخطر.
تشير تلك المقالة أيضاً إلى عريضة وقعها 700 أستاذ جامعي يـ.ـهـ.ـودي (أصبحوا أكثر من 1200 لاحقاً)، ووجهوها إلى الرئيس السابق بايدن، كي لا يقر قانون التوعية بـ “معاداة السامية” الذي تبناه مجلس النواب الأمريكي في 1/5/2024، على خلفية الاحتجاجات في الجامعات الأمريكية ضد الكيان الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني. وهو قانون جعل تعريف “معاداة السامية” غير الملزم الذي أطلق عالمياً سنة 2016، ووقعت عليه عشرات الدول بصورة مبدئية، ملزماً لوزارة التربية والتعليم الأمريكية.
يذكر، بالمناسبة، أن نواباً يـ.ـهـ.ـوداً في الكونغرس صوتوا ضد ذلك القانون، إضافةً إلى عريضة الأساتذة الجامعيين التي ذكرتها مقالة د. سيغال، تحديداً لأن التعريف يربط “معاداة السامية” بمناهضة السياسات “الإسرائيلية” في 7 حالات من أصل 11 حالة.
يقول د. سيغال إن تشديد الحصار على الخطاب الناقد لـ”إسرائيل” من خلال مثل هذه الإجراءات “لا يحقق الأمان لليـ.ـهـ.ـود في الولايات المتحدة. على العكس من ذلك تماماً، فإن الإسلاموفوبيا والعنصرية المتأصلة في توظيف معاداة السامية سياسياً قد تجعل منها تهمة لا معنى لها، الأمر الذي يجعل مكافحتها، بالتالي، أكثر صعوبةً، في وقتٍ تتزايد فيه الأمثلة الحقيقية عليها”.
يتعلق الموضوع إذاً، باختصار، بخوفٍ من ردات الفعل على السياسات “الإسرائيلية”، لا بمناهضة الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية. والرجاء التنبه إلى أن ذلك الخوف ينطلق من التعامل مع اليـ.ـهـ.ـود، من طرف الحريصين عليهم أو حتى من طرف الأقل تديناً بينهم، كجماعة إثنية لا بد من حمايتها، لا كأتباع ديانة. وهذا خطيرٌ جداً لأنه يمنحهم حقوق جماعة قومية، ومنها، مثلاً لا حصراً، “حق تقرير المصير” في دولة خاصة بهم.
مجدداً، ثمة بون شاسع بين فهم التناقضات في صفوف العدو والاستفادة منها، من جهة، وبين الوقوع في حبائل “السلام” الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني، من جهة أخرى. فهناك من يضرب كفاً، وهناك من يعدل “الطاقية”. وهناك من يجرح، وهناك من يضع ضمادةً على الجرح، من دون أن يعالجه.
نورمان فنكلستين مثلاً، على الرغم من كل معارضته المزعومة للصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية، يرى “حل الدولتين” حلاً عملياً ممكناً، مع أنه يرى “حل الدولة الواحدة” أكثر عدلاً (كأن الثاني يصحح مظلمة غزو فلسطين واحـ.ـتـ.ـلالها). ولا يرى فنكلستين حتى سقف الـ BDS سقفاً مقبولاً “لأنه يعني زوال إسرائيل”، برأيه.
بالمناسبة، كان نعوم تشومسكي يرى أن استهداف جندي “إسرائيلي” خارج الخدمة، لا ما زعموا أنه “مدنيون” فحسب، جريمةً كبرى. وهو لم يكن ضد العمليات الاسـ.ـتـ.ـشـ.ـهـ.ـادية فحسب، بل ضد العمل المسـ.ـلح حتى ضمن الأراضي المحـ.ـتـ.ـلة سنة 1967 (أنظر مقالته في “الآداب”، عدد كانون الثاني / شباط 2002).
أخيراً، سأترك لكم جماعة “ناطوري كارتا” إن شئتم. وهم أعلى سقفاً في مناهضة السياسات “الإسرائيلية” من دون شك. لكنْ، إن شئتم، عودوا إلى موقعهم الرسمي، وستجدون أنهم يرون أن الله عز وجل منح فلسطين لليـ.ـهـ.ـود حقاً، وأنهم سيجتمعون فيها من أرجاء الأرض كافةً في نهاية الزمان لإقامة شرع التوراة عندما يأتي المسيح المنتظر، لكنهم لا يقبلون تسييس الموضوع من طرف الدول الاستعمارية.
ما بين “خطاب السلام” الطامح لطي صفحة الحروب والنزاعات، بذريعة التركيز على الاقتصاد والتكنولوجيا والتنمية البشرية تحت راية “التكامل الإقليمي”، وخطاب “اعتبارات الأمن القومي” الذي يسوغ تحطيم الجيوش والدول والمجتمعات “مراعاةً للحساسيات الأمنية الإسرائيلية”، يتمزق المحيط فعلياً، وتتعمق أزمة الثقة بين المواطن العربي وأنظمته، ونبتلع الطُعم تلو الطعم حتى ينخفض سقفنا في مناهضة الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية إلى “إصلاحها”.
د.إبراهيم علوش