دعوة إلى عقلنة الإيمان

كثرت محاولات المقاربة والتجديد في التراث الفكري الذي يشكل البنية الفكرية لمجتمعاتنا وأهمها التراث الفكري الإسلامي حيث يشكل المسلمون الأغلبية في منطقة الوطن العربي والغرب آسيا. وذلك يعني أن إعادة النظر في القرآن والحديث النبوي وما يلحقهما من مفاهيم تابعة كالفقه والشريعة والتاريخ وحتى اللغة هي ضرورة تحتمها ظهور هذه المقاربات التي تدل على وجود مشكلة فكرية يمكن ملاحظتها أكثر من قضية طارئة على مجتمعاتنا مثل ظهور الحركات التطرفية الإسلامية مثل داعش، والإخوان المسلمين في حالة التمكن، وأيضاً مستوى ردة الفعل الخافتة اتجاه ما يجري في غزة، وغيرها من الأفهام الدينية الجدلية التي تصبح حديث الشارع لغرابتها ولعدم ملاءمتها للسياق الذي نعيش فيه حيث أنها تبدو مفاهيم محرجة أو منافية للذوق الإنساني وذلك مثل فتاوى مهاجمة المقاومة الفلسطينية في سياق أن الواجب هو قيام الليل والتسبيح بدلاً من مواجهة الإحتلال الإسرائيلي في حين تُسفك دماء أهل غزة، أو فتاوى أخرى تبرر الوقوف إلى جانب الإسرائيلي باعتبار أن تلك الفئة والإسرائيلي يشتركون في أن لهم عدواً واحداً.

تفتح هذه الحالة الفكرية المشوهة الباب أمام من يصطفون خلف الإسرائيلي والغربي أن يضربوا جدار أمتهم بكل ضراوة لشعورهم بالرفض والحرج مما تتناوله هذه الثقافة، فيطلب أحدهم مني متحدياً: “اذكر شيئاً واحداً فعلته داعش ليس موجوداً في الكتب أو لم يفعله محمد”! وللأسف، إن الكتب التراثية مليئة بهذه المواقف المتطرفة والتي تجعل الكثير من أبناء أمتنا ممن يتمنون مستقبلاً أفضلَ للبلاد أن يقفوا موقف المتغاضي، وقد يزيد تغاضيهم وإحراجهم عندما يقفون في صف المقاومة مثلاً ومن ثم تُلقى أمامهم الاتهامات التاريخية التراثية عن زواج النبي محمد عليه السلام بعائشة وهي طفلة في التاسعة، وعن نصوص القتل وسفك الدماء ولا ننسى القضية التي غزا بها الغرب العالم بأسره، قضية المرأة.

إن وجود هذا النوع من الأفكار في ساحتنا لا يساهم فقط في تعميق الفجوة بين الخطاب الديني التقليدي والأجيال الجديدة، بل يُنتج أيضًا حالة من الانفصام الثقافي. فهؤلاء الشباب، الذين يتبنون تصورات أقرب إلى العقلانية الحديثة والإفكار الليبرالية، لا يجدون إجابات مقنعة داخل بنية تراثهم المتجمدة، بل وعلى العكس من ذلك، يرون في حياة الغرب مثالاً لما يجب أن تكون عليه الأمور، فينتهي الأمر بكثير منهم إلى اتخاذ موقف معادٍ أو على الأقل متشكك تجاه ثقافتنا الأم. وإنني لا أعد هذا ليس تمردًا على الدين، بل على الطريقة والتصورات التي يُقدَّم بها الدين. وهنا لدينا قاعدة مهمة يجب إدراكها أن جوهر الشيء ليس هو التصورات التي تحوم حوله، وأهمية هذه القاعدة في أنها تزيل القداسة الوهمية التي تعيق عملية الإصلاح الفكري.

(النخبة الدينية) بخطابها التقليدي لا تملك أدوات المواجهة الفكرية، وإنما أهي أدوات انفصام فكري وحالة من التصدّر دون أن أي مقومات، في الوقت الذي تسأل فيه الأجيال أسئلة مشروعة عن العدالة، والعقل، والمعنى، والغاية، والسبب والنتيجة… ولا يجدون جواباً. لذلك، أجد أنه من الضروري أن نتوقف قليلاً وأن نسأل هذا السؤال الجوهري: لماذا نحتاج هذه المنظومة الدينية في الأصل؟ هل تُقدِّم فعلاً حلولًا واقعية ومنسجمة مع حاجات الإنسان في منطقتنا وبالتحديد في ظل هجمة إستعمارية لم يسبق لها مثيل في التاريخ؟ إذا كان الجواب نعم، فلابد أن تتم محاكمتها بمنطق معاصر يضعها أمام اختبارات العقل وأن نعود إلى أصل غاية هذه المنظومة الذي تصرح به هي عن ذاتها وتقول “كتاب أنزلناه إليه لتخرج الناس من الظلمات إلى النور” أو “كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا”.

الحاجة إلى “عقلنة الإيمان” حاجة ترقى إلى الحاجة الوجودية، لأننا في مواجهة قضية وجودية على مستوى الروح، ومن يتصدرون للمشهد لا يعرفون من التراث إلا رسمه وشكل حروفه حادة الزوايا التي يلزمون بها الأجيال الجديدة حرة الروح. لا بد أن يُخضع الموروث الديني لمحاكمة العقل وأسئلة الواقع، لا ليُلغى، بل ليُستعاد كقوة تحرير. ولسنا بحاجة لعالمية إخوانية تُسقط التراث على الناس كقيد، ولا لشمولية سلطوية تحتكر الفهم.

عقلنة الإيمان تعني أن هذا التراث، وعلى رأسه القرآن، ليس حكرًا على فئة، بل مادة حيّة لمن يملك القدرة على إنزاله إلى مستوى الحقيقة، إلى المستوى الذي يسجد له العقل طوعاً…

ويظل السؤال مزعجاً:
كيف نصمت أمام استعمار إحلالي يُلغي الروح قبل المكان، وبين أيدينا كتاب يدّعي أنه نور، وما زلنا نتعاطاه بطريقة مغلقة لا تسمح له بالإشراق؟ إذا لم نُعقلن الإيمان الآن، فمتى؟ وإذا لم يكن تحرير التراث هو طريق نجاتنا، فما هو البديل؟

آدم السرطاوي – كندا