كتب د. زياد حافظ*
حروب ترمب الداخلية
*باحث وكات اقتصادي سياسي ورئيس منتدى سيف القدس والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي
إذا أردنا أن نفهم التقلّبات في السياسة الخارجية للرئيس الأميركي دونالد ترمب فعلينا أن ننظر إلى الداخل الأميركي حيث السياسة الخارجية تجد جذورها في العمق الداخلي. والمقصود هنا أن القوى المتنافسة على السلطة داخل النظام الاميركي لها اعتبارات ومصالح متناقضة ما تجعل مهمّة أي رئيس صعبة لأنه ملزم بأخذ بعين الاعتبار مصالح تلك القوى. ومن ضمن تلك القوى ما يمكن تسميته بمكوّنات الدولة العميقة التي تشمل المجمّع العسكري الصناعي، أي البنتاغون والجسم الإداري للدولة الاتحادية، وشركات التصنيع للأسلحة، والمجمّع الاستخباراتي، وشركات التكنولوجيا، والاعلام، ومراكز الأبحاث، والجامعات، وأهم من كل ذلك المجمّع المالي الذي يتحكّم بمفاصل تلك المكوّنات. والرئيس ترمب أعلن أن عنوان ولايته الثانية هو مواجهة عدد من مكوّنات الدولة العميقة سواء في البنتاغون أو الجسم الإداري للدولة الاتحادية أو شبكة المخابرات والأمن بما فيها مكتب البحوث الاتحادي ووزارة العدل. وبالفعل قام بسلسلة إجراءات عبر مذكرات تنفيذية لتقويض نفوذ تلك المؤسسات. ليس هدفنا في المطالعة مقاربة تلك الإجراءات ونتائجها، بل التركيز على طبيعة الاشتباكات السياسية التي يخوضها ترمب وانعكاساتها على السياسة الخارجية. فهذه الإجراءات أدّت إلى اشتباكات إعلامية وسياسية في داخل الكونغرس وخارجه وحتى مع جهات وازنة من الحزب الجمهوري الذي يمثّله نظريا.
أولى هذه الاشتباكات هي في بنية وزارة الخارجية ومجلس الامن القومي حيث أقدم على تقليص عدد العاملين في المجلس وعلى الغاء أحد أذرعة الهيمنة النيوليبرالية على العالم، أي الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وعدد من المؤسسات كوقفية لدعم الديمقراطية في العالم، وضم هذه المؤسسات التي كانت تتمتع باستقلالية وموازنات خاصة إلى وزارة الخارجية. كما أقصى من يُعتبروا بالصقور داخل مجلس الامن الوطني وهم من مخلّفات إدارات متتالية ويشكّلون أذرعة القائمين على ترويج وتثبيت الهيمنة الأميركية وسياساتها النيوليبرالية التي تنامت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. وتلا تلك الإجراءات محاولات لتخفيض عدد العاملين في الدولة الاتحادية وما زالت قائمة رغم تدخل عناصر من القضاء الأميركي لإيقافها وإلغائها. لكن القرار الأخير الذي صدر يوم الجمعة في 27 من حزيران/يونيو 2025 عن المحكمة الدستورية العليا لجم فيه حرّية القضاء في نقض قرارات الرئيس. المعركة هنا هي حول مدى صلاحيات السلطة التنفيذية التي كانت قد تناثرت عبر العقود الماضية في مختلف أجهزة الدولة. ومن الواضح ان معركة استعادة صلاحيات الرئيس تجعله على خط تصادمي مع المؤسسات الدستورية الأخرى كالسلطة التشريعية والسلطة القضائية. لم تحسم تلك المعركة التي ما زالت قائمة والتي نرى مظاهرها في مختلف المناطق. أما الإجراءات التي أثارت النخب النيوليبرالية وخاصة بين قيادات الحزب الديمقراطي فهي تلك التي تتعلّق بالهجرة الوافدة “غير الشرعية”. وتفيد الإحصاءات أن حوالي 11 مليون مهاجر في وضع غير قانوني ما دفع ترمب والحركة الشعبوية التي يتزعمها إلى الدعوة والعمل على ترحيلهم. إلاّ أن هذه الإجراءات لترحيل المهاجرين “غير الشرعيين” أثارت حفيظة العديد من الولايات التي يحكمها رموز من الحزب الديمقراطي فأعلنت أن ولاياتها ملذات آمنة للمهاجرين، أي الدولة الاتحادية لا تستطيع ملاحقتهم في الولايات.
فأحداث الشغب التي شهدتها مدينة لوس انجلس هي فصل من حروب الرئيس الأميركي الداخلية وتعبّر عن مدى معارضة فئات واسعة من الشعب الأميركي لقرارات ترمب. وهذه الحروب هي في الأساس حرب واحدة، ولكن على عدّة جبهات. فالحرب الواحدة هي ضد عدد من مكوّنات الدولة العميقة المتوغّلة في المجتمع الأميركي وفي المواقع السياسية. وأحداث لوس انجلس تعيد الذكرى إلى أحداث الشغب التي عمّت العديد من المدن الأميركية في صيف 2020. عنوان أحداث الشغب آنذاك كان الدفاع عن السود في أميركا برعاية جمعية “بلاك لايفز ماتر” (Black Lives Matter) المدعومة من الشركات الكبرى التي وجدت عبر تلك المنصّة منفذا لتحويل الأنظار عن المشهد الاقتصادي المتردّي. كما أن تلك الاحداث كانت في السنة الأخيرة لولاية ترمب الأولى التي شهدت محاولات ناجحة من الدولة العميقة لإفشال اجندته الخارجية كالتقارب مع روسيا وكوريا الشمالية. واحداث الشغب آنذاك حظيت بدعم واضح وصريح من كافة قيادات الحزب الديموقراطي في محاولة واضحة لتأليب الرأي العام الأميركي ضد ترمب في تلك السنة الانتخابية. والجدير بالذكر أن المدن التي كان يحكمها رموز من الحزب الديمقراطي كمدينة شيكاغو على سبيل المثال رفعت شعارات غريبة كقطع التمويل عن الشرطة.
واعتبرت تلك القيادات أن اعمال السرقة والنهب من قبل بعض السود هو “تعويض” عن المآسي الماضية في حقبة العبودية والاضطهاد العرقي والعنصرية فيما بعد في الوظائف.
أما في المشهد الحالي فإن سبب المظاهرات والاحتجاجات هو رفض قرارات ترمب بملاحقة المهاجرين غير الشرعيين. وولاية كاليفورنيا التي يحكمها الديمقراطي غافين نيوسم كانت قد أعلنت أن الولاية بأكملها ملجأ للمهاجرين فلا يمكن للدولة الاتحادية ملاحقة من هو تحت حماية الولاية. ما يطرحه حاكم الولاية هو مرآة لما يطرحه ترمب أي تحديد مدى صلاحيات الدولة الاتحادية ومدى سيادة الولايات. بالمناسبة، لا ندري لماذا تمّت ترجمة (states) إلى ولايات علما أن المقصود أنها “دول” بكل معنى الكلمة. فالولايات/الدول لها دستورها، ولها مجالسها التشريعية، ولها قوانينها، أي تتمتع بكل مزايا السيادة إلاّ حق صك العملة والسياسة الخارجية. والدول/الولايات حريصة جدّا على سيادتها. فالحرب الاهلية التي عصفت بأميركا في القرن التاسع عشر كان سببها الأساسي حول مفهوم سيادة الدولة/الولاية التي كانت تضم حق الدولة/الولاية بامتلاك الرقيق. فالحرب لم تكن سببها تحرير السود من العبودية، بل تقويض سيادة الدول/الولايات. فتحرير السود كان نتيجة انكسار ولايات/دول الجنوب إلاّ أن القضية الأساسية ما زالت عالقة وتنذر بتفتيت الكيان الأميركي عبر انفصالات إقليمية عن الدولة الاتحادية.
الجبهة الثالثة التي خاضها ترمب هي داخل الكونغرس الأميركي لتمرير مشروعه القانوني “الكبير والجميل” كما نعته الرئيس الأميركي والذي يتضمن تخفيضات ضرائبية للشركات والاثرياء وزيادة ملموسة لموازنة الدفاع التي تتجاوز التريليون دولار. بالمقابل هناك تخفيضات في عدد من الخدمات الاجتماعية وخاصة فيما يتعلّق بالأدوية. هناك اجماع شامل من قبل الديمقراطيين في مجلس الشيوخ إضافة إلى تمرّد شيخين جمهوريين. فنقطة الفصل كانت بصوت نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس الذي حسم النقاش والتصويت في مجلس الشيوخ. لكن من الواضح أن المعارضة له في الكونغرس وخارجه كبيرة وهذه المعارضة شغلت إدارة ترمب بينما كان يقارب الملف الاوكراني والإيراني وملف غزة. ولا أحد يستطيع القول أن التصويت الأخير في مجلس الشيوخ سيكون نهاية المطاف لذلك يجب توقّع المزيد من الاعتراضات التي معظمها ستكون في الشارع والتي ستتضافر مع الاحتجاجات ضد ترحيل المهاجرين.
الجبهة الرابعة هي مع الاعلام الذي هو أحد مكوّنات الدولة العميقة. فالإعلام الأميركي المملوك من قبل ست شركات التي هي بدورها مملوكة من قبل أربع أو خمس شركات مالية كبلاك روك وفانغارد وستيت ستريت وهتاوي وبركشاير وفيدليتي كان أداة الدولة العميقة في تفشيل الولاية الأولى لترمب، وفي تغطية التلاعب بنتائج الانتخابات في ،2020 والذي كرّس جهوده خلال ولاية بايدن لتشويه صورة ترمب. فهذا الاعلام ما زال يقود حملة تشكيك في قرارات وإجراءات الرئيس الأميركي وصلت إلى حد الشتائم بحق المراسلين الذين يسائلون الرئيس الأميركي. كما وصفه لمنصّات إعلامية كبيرة كشبكة سي أن ان وصحيفة النيويورك تايمز بمؤسسات تروّج الاخبار الكاذبة يدل على مستوى التصادم بين الرئيس والاعلام. وفي الآونة الأخيرة تصدّرت الشبكة المذكورة وصحيفة النيويورك تايمز مع العديد من المنصات البحثية في التشكيك في نتائج العدوان على المنشئات النووية في الجمهورية الإسلامية في إيران وفي نتائج العدوان الأميركي والصهيوني على إيران. لذلك نجد أن الاعلام الأميركي الشركاتي يشكّل شوكة مؤلمة في خصر الرئيس الأميركي.
الجبهة الخامسة هي مع الاوليغارشية التكنولوجية التي يشكّل أحد رموزها البارزة ايلون ماسك، صاحب موقع “أكس” والمساهم الأكبر في شركة تسلا للسيارات والتي تٌقدّر ثروته بين 250 و750 مليار دولار حسب تقلّبات البورصة. وماسك كان ما أعطى الفرصة على منصّة “أكس” للتعبير بعد ان تمّ اقصاء الرئيس من قبل المالكين السابقين الذين كانوا يتماهون مع سياسة إدارة بايدن. كما أن مسك كان من المساهمين الكبار في تمويل الحملة الانتخابية لترمب والحزب الجمهوري قّدّرت بأكثر من 277 مليون دولار. تمت “مكافأة” بتوكيله ترشيد الجسم الإداري فأوجد وزارة الكفاءة الحكومية. غير أن الخلاف وقع بين ترمب وماسك حول مضمون الموازنة الضخمة التي تضمّنت تخفيضات في الدعم للطاقات المتجدّدة التي يستند إليها ماسك في شركاته الصناعية. وصل الخلاف إلى تبادل التهم والشتائم وإن تمّت فيما بعد “هدنة” كلامية إلا أنها لا تخفي الخلافات الحادة التي لها تداعيات مالية كبيرة بالنسبة لماسك. فشركات ماسك تحظى على عقود ودعم مالي من الدولة الاتحادية ما يوازي 20 مليار وأن الموازنة التي مرّرها ترمب تخفض الكثير من تلك المساعدات وحجم العقود. وهذه الخلافات ليست مع ترمب ولكن مع توجّهات لبعض المستشارين لدى ترمب الذين يعارضون بعض الاوليغارشية كبيتر نافارو المستشار المالي لترمب وخلافه مع مسك.
كما ان هناك ميل لتمكين نفوذ الاوليغارشيات التكنولوجية عبر تقويض جسم الإدارة التي أصبحت في عين العديد منهم جسم كبير لا ينتج. من هنا اقبال مسك على تخفيض عدد العاملين في الدولة الاتحادية ما أنتج دعاوى في المحاكم.
الخلافات بين مسك وترمب تعكس أيضا الخلافات في موضوع الطاقة. فمسك يستند في شركاته إلى الطاقة المتجددة بينما مشروع الموازنة ينزع التحفيزات والمعونات المالية عن ذلك. كما أن شركات الطاقة كالنفط والغاز لا تريد منافسة من شركات الطاقة النظيفة لذلك كان تضارب المصالح بين مسك وزملائه من اوليغارشية الطاقة سببا في تردّي العلاقة مع الرئيس الأميركي.
الجدير بالذكر أن هناك نهجا فكريا يسود إدارة ترمب وهو تركيز كافة السلطات بيد الرئيس وفي مرحلة لاحقة جعل الجسم التشريعي أداة لتنفيذ قرارات الرئيس كما هو الحال في العديد من الديكتاتوريات. وحتى الجسم القضائي يجب تقويضه وتحويله إلى أداة لتطبيق القرارات التنفيذية. هذا سيشكّل تحولا كبيرا في بنية النظام السياسي من نظام جمهوري ديمقراطي إلى نظام تسلّطي شبيه بالملكية أو الإمبراطورية. وفي سياق هذا التفكير من يدير البلاد يجب أن يكون رئيس من رؤساء الشركات التكنولوجية وليس عبر عملية انتخاب. صاحب تلك النظرية هو كورتيس فراي (Curtis Vray) الذي يؤثّر بشكل كبير على نائب الرئيس جي دي فانس. أفكار فري تعتبر على هامش المروحة الفكرية السياسية الأميركية لكنها بدأت تجد ترويجا كبيرا لها في داخل الإدارة. فما نريد أن نشير إليه أنه يوجد معركة فكرية سياسية كبيرة قد تؤدّي إلى قلب المعادلات السياسية في الولايات المتحدة وخاصة فيما يتعلّق بطبيعة وبنية النظام. فهذا موضوع يستحق المتابعة في الأشهر القادمة قبل استحقاق الانتخابات النصفية.
هناك جبهة سادسة انفتحت مؤخرا على الرئيس الأميركي وهو التصدّع الذي بدأ يظهر داخل تجمّع “ماغا” الذي لا يوافق على الحروب الخارجية التي ينخرط فيها ترمب. كما أن قضية غزّة وفلسطين تتفاعل بشكل مستمر داخل المنظومة الأميركية سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية. فالنخب التقليدية في الحزبين تؤيّد الرئيس الأميركي في مواجهته مع كل الجمهورية الإسلامية في إيران ومكوّنات محور المقاومة والدعم اللامتناهي للكيان. لكن التصدّع الذي ظهر عند عدد من رموز تجمّع “ماغا” كموقف الإعلامي المؤثر تاكر كارلسون والمؤثرة كانديس اوين وأهم من كل ذلك راس الحرب لتجمّع “ماغا” في مجلس النوّاب النائب مارجوري غرين ينذر بأنه قد يخسر ما يوازي 15 بالمائة من الناخبين ما يعني خسارة الجمهوريين في مجلس النوّاب ومجلس الشيوخ. وما يزيد تعقيد الأمور بالنسبة لترمب هو فوز زهران ممداني في الانتخابات التمهيدية في الحزب الديمقراطي لموقع عمدة مدينة نيويورك. يعتبر الرئيس الأميركي ذلك الفوز تحدّيا له وهدّد بنزع المواطنة عن ممداني وترحيله إلى أوغندا!
وما يزيد الطين بلّة بالنسبة للتحدّيات الداخلية التي يواجها ترمب هو اقدام مسك على انشاء “الحزب الثالث”. جاءت هذه الخطوة على اعقاب التصويت في الكونغرس للموازنة التي أعدّها ترمب. ووفقا لاستطلاعات الرأي العام التي أجريت في 4 تموز/يوليو، أي بعد التصويت في الكونغرس هناك أكثر من 64 بالمائة من يؤيّد تلك الخطوة. هذه الخطوة قد تأخذ من قاعدة ترمب كما من قاعدة الحزب الديمقراطي إذا ما استطاع مسك أن يفعّل ذلك الحزب الجديد. ليس من الواضح ماذا ستكون توجّهات الحزب الثالث الذي ما زال ينتظر اسما له لكن قد يكون المزيج من الشعبوية والتكنوقراطية. فإذا نجح مسك في إطلاق ذلك الحزب فإن الانتخابات النصفية القادمة في خريف 2026 قد تقلب المشهد السياسي.
لذلك فإن جميع هذه الجبهات تستنزف من وقت ترمب وقدراته على التركيز وبالتالي يحاول مراعاة المصالح المتناقضة داخل فريقه كما في معظم انحاء البلاد. أولوية الرئيس ترمب كانت وما زالت الانكفاء نحو الداخل لإعادة بناء الدولة حسب تصوّره المتغيّر. لكن بطبيعة الحال هو مسؤول أيضا عن معالجة ملفّات خارجية امتداداتها الداخلية عميقة ومتناقضة مع توجّهاته. وبالتالي نرى التخبّط والارتجال في بعض القرارات التي سرعان ما يتراجع عنها إذا ما وجد معارضة صلبة لها. فليس ما يقوله ترمب منحوتا في الصخر فوقائع الميدان هي التي تفرض حالها على قراراته.