نعيش اليوم استعدادات معركة الحسم أو الفصل بين إيران والتحالف الصهيو-أميركي. أما متى وكيف ستكون؟ فذلك متروك لأصحاب القرار. ذلك أن المواجهة لم تنتهِ، بل تبدّلت أدواتها، وقد تتطوّر في أي لحظة من ضربة موضعية إلى مواجهة شاملة، ما لم تُقِرّ واشنطن بحقوق طهران وقيود القوة في الصراع معها. ولن تحمل الحرب المقبلة دلالات الانتصار والهزيمة التقليدية، لأنها حرب وجودية بالنسبة للكيان، وسيادية لإيران، والفرق بينهما كبير.

اتضح بجلاء أن المعركة لم تكن مرتبطة بالنووي، بل هدفها الأبعد هو إسقاط النظام الإيراني، وانتزاع المنطقة من يده، وعودة الأميركي إلى منابع الثروات في إيران. وهذا لن يحدث.

يصعب فهم ما جرى في هذه الحرب ما لم ندرك تفاصيل المخطط الكبير الذي أُعِدّ للشرق الأوسط الجديد. ما تختبره أميركا من إيران أنها لا تستطيع الانتصار عليها بمعركة نزيهة، كما أظهرت التجارب من حادثة “طبس” إلى الحرب “العراقية “، إلى “الأسد الصاعد”. هذه المرة، كان التسلل من الداخل بشكل محير، وشاركت فيه معظم دول الطوق، حيث تم في ليلة الهجوم الأولى شلّ منظومة الرادارات الإيرانية بهجمة سيبرانية مشتركة من عدة دول. واستُهدِفت شخصيات مهمة، وقُصفت منصات الدفاع الجوي، ضمن مخطط كان يهدف إلى إحداث انقلاب داخلي وتدخل دولي، بعد السيطرة على وزارات ومقرّات حساسة من خلال مجنّدين في الداخل. ويبدو أن جيشاً من المرتزقة – معظمهم من الأفغان – حضّر للحظة الصفر للانطلاقة. وحتى الآن، لا تُعرَف تفاصيل فشل المخطط الذي استُعِدّ له لأكثر من عشر سنوات.

ستُكشَف لاحقاً معطيات كثيرة حول ما جرى ليلة الفشل. وليس غريباً على الغرب استخدام الوكلاء لاستنزاف الخصم تمهيداً للانقضاض عليه. كما اصبح الحديث عن عامل الزمن أو “الصبر الاستراتيجي” من الماضي بعد إعلان الحرب الوجودية. فما يجري الآن ليس أزمة عابرة يمكن توظيفها لتعديل قواعد الاشتباك، بل هو تغيير لقواعد الحرب ولخريطة التموضع الاستراتيجي في المنطقة والعالم . بعد ان تيقّن العدو من استحالة اعتماد سياسة الاحتواء. ومعركة إيران تُعَدّ أحد فصول الصراع القائم على القطبية الدولية، شأنها في ذلك شأن الحرب الروسية-الأوكرانية، والمعركة القادمة حول تايوان بالنسبة للصين.

منذ حرب تموز، تيقّن الغرب أن الشرق الأوسط قد يفلت من قبضته، فكان القرار بالتحضير لحرب هيمنة جديدة. وقد كشف أكثر من طرف متورط في أزمة المنطقة عن خفايا هذا القرار. ما يجري يثبت أن الغرب لا يعترف بوجودك عبر مفاوضات أو بيانات صحفية، مهما قدّمت من تنازلات. فمنذ القدم، كانت الهيمنة الغربية تسحق كل مشروع وطني للاستقلال. واليوم يُعاد السيناريو، بشكل أوضح، ضد دولة ذات سيادة، أعلنت مراراً – من منطلق عقائدي وأخلاقي وبموجب القانون الدولي – أنها لا تسعى إلى امتلاك السلاح النووي. مع ذلك، تتعرضت لهجوم تتجاوز أهدافه ما سوّق إعلامياً، بقيادة تحالف صهيو-أميركي، ودعم الناتو وعدد من دول الخليج والهند وأذربيجان وصربيا وقبرص.

يريد الغرب من الكيان الصهيوني أن يكون القوة الضاربة الوحيدة في المنطقة، يأتي هذا بعد سقوط دمشق، وتقييد المقاومة في لبنان، والإبادة الجماعية التي تتعرض لها غزة. وليس من قبيل المصادفة أن تُرفَع في الوقت نفسه، من عواصم مختلفة، مطالب بنزع سلاح المقاومة في لبنان والعراق، وتفكيك الحوثيين في اليمن.

من المؤكد أن إيران ستعود إلى المواجهة إن لزم الأمر، لوحدها. فروسيا المراوغة لا تقدّم دعماً كاملاً، والصين التاجر لا تحتمل دفع فاتورة الحرب. كلا الطرفين يرغبان في انتصار إيران، ولكن بالنقاط، دون أن يُمسّ بمصالحهما. في المقابل، إيران لا تقبل بصيغة التعاون التي تمسّ أمنها القومي، وهي تدرك جيداً ما فعله الروس في سوريا عندما تضاربت المصالح، ومن تأخير تسليم طائرات “سوخوي 35″، وامتناع تزويدها بمنظومة الدفاع الجوي S-400، رغم الشراكة الاستراتيجية.

يحدث هذا في الوقت الذي تعرض فيه موسكو على الهند – الحليف الوثيق لواشنطن – صفقة ضخمة تشمل 117 طائرة “سو-35 إم”، إلى جانب إنتاج مشترك لطائرات “سو-57” مع نقل كامل للتكنولوجيا.

طوال الحرب، لم تخرج من موسكو سوى بيانات شجب واستنكار. أما الصين، فقد أعلنت بوضوح أنه لا يجب ان تفكر طهران في إغلاق مضيق هرمز، وهو ما يُعتبر رسالة ثانية لفهم طبيعة تقاطعات المصالح وتضاربها.

كما لا يمكن إغفال أن الطرفين، الصيني والروسي، لا يناسبهما انتصار إيران الحاسم، لأن الانتصار القاطع سيمنح طهران قيادة محتملة للعالم الإسلامي، بكل امتداده الجغرافي بثرواته الضخمة ، والديمغرافي بطاقاته الكبيرة، وهو ما سيثير مخاوفهما من تأثيرات إيرانية على قراراتهم السياسية في المستقبل المنظور. يبدو أن باكستان، الدولة الوظيفية الوحيدة ، التي قرأت المشهد بدقة. وربما فعلت مصر كذلك.

أما تركيا، المنغمسة في وهم انتصار “الجولاني” وتموضعها الأطلسي، فستكون الخاسر الأكبر في المنطقة، سواء اندلعت الحرب ، أو لم تندلع أصلاً.

سيمياء الحرب الأخيرة، حطّمت إيران فيها غطرسة الكيان الصهيوني التاريخية، وأثبتت أنها لن تفرّط بثوابتها الاستراتيجية. فاجأت خصومها بنوعية الهجمات، التي كانت مدمّرة لركائز الوجود الصهيوني الداخلي بعد ان سقط امام الراي العام خارجيا ، وغيّرت الحسابات التي بنى عليها نتنياهو وحلفاؤه خططهم. بعد ان بادرت بالهجوم، وثأرت لنفسها ولفلسطين ولبنان والعراق واليمن. جعلت الاحتلال يخرج من وهمه الاستراتيجي الى واقعه التكتيكي المهترئ، ويُدرِك أنه في مواجهة لا يمكنه الانتصار فيها، رغم كل الإمكانات الغربية والناتوية والخليجية الممنوحة له. وحرب 12 يوماً من المواجهة أفرزت معطيات عميقة حول التحالفات وخيارات المرحلة المقبلة، دون شك.

إيران تُتقِن فن التواصل في فنون الحرب، وقد اكتسبت خبرة كبرى منذ حربها الأولى مع العراق، لأنها تصدت للجميع، ويشبه ما يجري الآن. ورغم تطور الأدوات، لا تزال تحسن التموضع، وتُجيد استخدام قدراتها في اللحظة المناسبة.جولة المواجهة الأخيرة، رغم صعوبتها، رسّخت معادلة “الردع المتراكم”، وفرضت على خصومها توازناً جديداً، وإن ظلّ مشروطاً بعدم الانجرار إلى حرب شاملة، ولو مؤقتاً. ولا يُستبعَد أن تتطور المواجهة المقبلة إلى حرب شاملة. ومن خلال المعركة السابقة، يظهر بوضوح التطور اللافت في القدرات الصاروخية الإيرانية. أما الغطاء الجوي، الذي يراه البعض ضعيفاً، فالأرجح أن إيران ستفاجئ الجميع به، في التوقيت المناسب، وبما تقتضيه مراحل الحرب.

تدرك طهران هذه المرة، لا بدا من ردّ حازم وقاسم كما تعرف انها لن تكون بمنأى عن الاستهداف وتحسن امتصاص الضربات، وسيكون ردها في الدفاع مطلب ضروري واستراتيجي .أمام خصم لا يمتلك نفَسًا طويلًا، ولا يتقن حتى سياسة التواصل الحربي .

ما تصوّره الكيان ضربة قاضية، تَحوّل كابوس بالنسبة لهم وإلى عامل تأزيم إستراتيجي، واختبرت واشنطن والكيان قدرات إيران الدفاعية والتدميرية لكن ايران لم تقدم لهم حقيقة قدراتها واتصور ان الامريكي الصهيوني سيقع في سوء التقدير مرة ثانية.

حقيقة ما يجري ليس صراعًا على نووي، بل على معنوي اربكهم . هذه المعركة تُخاض منذ انتصار الثورة الاسلامية في ايران بشيطنتها وحصارها وحربيها لانها ترفض أن تكون تابعًا، ومن يصنع تاريخ الامم هو الوحيد من يتحدى هيمنة الشر، ولا يبيع سيادة وطنه وان اشتدت عليه العواصف.
حسن فضلاوي