في قلب الميدان، حين اهتزّت الجغرافيا على وقع المفاجأة، بزغ مشهد لا يشبه ما قبله، ولا يشير إلى عودة إلى ما بعده. ما جرى لم يكن عملية مسلّحة بحدودها الميدانية، بل تحولٌ مفاهيمي أعاد تشكيل فهمنا لذواتنا، وهوياتنا، وامتداداتنا الحضارية. انكشفت أستار كثيفة كانت تحجب الوجه الحقيقي للفلسطيني، ذاك الكنعاني المتجذر في التاريخ، الحاضر في الذاكرة الغائرة والوعي المتقد.
الكنعاني الفلسطيني لا يُستدعى من المتاحف ولا يُستحضر كرمز تراثي محنّط. هو واقع نابض، يتجاوز الاستعارة ويشق طريقه كإطار تفسيري لفهم الحاضر وصياغة المستقبل. من الطوفان انبثقت لحظة وعي، كشفت البنية الداخلية للذات الجمعية، وأزاحت الحجاب عن قوى حقيقية ظلت على الهامش، تنتظر الفرصة لتعود بملامحها الأصلية: نخب جذرية، وعي عرقي، وعقيدة متماسكة، تشكّل مجتمعة طيفاً جديداً من الفعل المقاوم، السياسي والفكري والشعبي وحتى الاقتصادي.
الرهان الجديد لا يقوم على خطوط عرض وهمية، ولا على منظومات فكرية مستوردة، بل على شعور داخلي بالانتماء إلى حضارة تأسّست قبل الأساطير، واستمر حضورها في وعي الأمم حتى دون أن تذكرها بالاسم. مدن مثل أريحا، غزة، عكا، وصيدا لم تُبنَ فوق فراغ، بل على أرض راسخة في التاريخ. وكلُّ أثرٍ من هذه الأرض يشير إلى عرق لم يغادر، وإرث لم يتلاشَ، وعقيدة لم تنكسر.
الدراسات التاريخية واللغوية القديمة تتقاطع في تأكيد نسب الفلسطينيين المعاصرين إلى الكنعانيين، سواء عبر الجينات أو اللغات أو الأساطير. في اللغويات السامية، يُفكك اسم “فلسطيني” إلى “فِلَس” أي النور، و”طِين” أي الأرض، لتخرج لنا صورة مركبة: إنسان يجمع الإشراق بالجذور. ابن الطين المستنير ليس رمزاً شعرياً، بل توصيفٌ لنموذج إنساني متكامل، يجمع بين الوعي الماورائي والارتباط بالمكان.
النخب التي تقود مشروع المقاومة اليوم تنطلق من هذه الفرضية الوجودية. لا تدور في فلك التسويات، ولا تنشغل في الهويات المرحلية. منطلقها التاريخ، ومجالها الحاضر، وغايتها مستقبل يُبنى بوعيٍ جديد، أكثر تماسكا، وأكثر قدرة على توظيف الامتداد الجغرافي للفلسطينيين في أوروبا، أفريقيا، والأمريكيتين. امتداد لا يُختزل بالشتات، بل يُعاد فهمه كشبكة نفوذ قابلة للتنظيم، وكنز استراتيجي لم يُستثمر بعد بكامل طاقته.
الطوفان الكنعاني أفرز جبهة فكرية متحررة من الرطانة السياسية. جبهة تتعامل مع الأرض كامتداد للوعي، وتقرأ التاريخ كمرآة للواقع، وتكتب السردية من منظور صاحب الحق لا من موقع الباحث عن تعاطف. هذه ليست لحظة انفعال، بل نقطة تحوّل في فهم الذات، وفي تعريف الفلسطيني كفاعل لا كضحية.
النقطة الجوهرية لا تتمثل فقط في الانبعاث الكنعاني ضمن حدود فلسطين التاريخية، بل في إدراك الأبعاد الكونية لهذه الهوية. أوجه التشابه بين الميثولوجيا الكنعانية والأساطير الإغريقية، المصرية، وبلاد الرافدين ليست محض مصادفة. كتب الميثولوجيا القديمة تشير إلى “التيتون” أو أبناء الآلهة، وتُظهرهم كحاملي النور الأول، وتلك الصفات ارتبطت في النصوص الدينية والأدبية بالشخصية الكنعانية.
أما في النصوص الإسلامية، فتكررت الإشارات إلى “الطائفة المنصورة” التي تبقى على الحق، يُعزها من وافقها، ولا يهزها من خالفها. لا تحتاج هذه الطائفة إلى اسم جديد، لأن معالمها واضحة، وأرضها معروفة، وخصائصها منطبقة.
الطوفان إذًا ليس رداً عسكرياً، ولا تصعيداً سياسياً، بل وعيٌ انبثق من الجذور ليعيد بناء التصور الكلي لفلسطين كفكرة، وهوية، ومشروع حضاري مستمر. من هنا يبدأ التحرير، لا من حدود الجغرافيا، بل من قلب الإنسان الكنعاني، الذي يدرك اليوم أكثر من أي وقت مضى أن ميراثه لا يُختصر في وطن، بل يمتد في الزمان والمكان كأفق لا حدود له.
بقلم: خالد دراوشه