كتب الأستاذ ناصر قنديل..

– بالرغم من عدم وجود إعلان رسمي أميركي عن قرار الانسحاب العسكري من سورية، إلا أنه لا يمكن تجاهل الإعلانات المنشورة من هيئة البث الإسرائيلية حول أن تل أبيب تبلغت النية الأميركية بالانسحاب من سورية وأبدت الخشية على المصالح الإسرائيلية جراء هذا الانسحاب. وهذا القرار قد لا يوضع قيد التنفيذ قبل شهور، لكنه تعبير عن اتجاه لإعادة هندسة الحضور العسكري الأميركي في المنطقة، وما يترتب عليه من إعادة هندسة سياسية لموقع أميركا ودورها ومصير الحديث عن خيارات عسكرة المنطقة التي ترغب بها تل أبيب وتريد من واشنطن أن تكون شريكاً أولَ فيها.
– الإشارات المرافقة للإعلان ترسمها حركات إسرائيلية ترتبط به على الأرجح، أولها الإعلان عن لقاء يجمع الرئيس الأميركي دونالد ترامب برئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في الرابع من شباط المقبل، أي بعد أسبوع، والأرجح أن القرار سوف يكون الوجبة الرئيسيّة على المائدة، وما يترتب على واشنطن لتل أبيب كضمانات لتفادي انعكاسات مؤذية على كيان الاحتلال. وقد بدأت الإشارات تتلاحق قبل الإعلان الإسرائيلي عن الخبر، وكان أولها التغطية الأميركية لتمديد إسرائيلي لمهلة الانسحاب من جنوب لبنان، وما سيرافق التمديد كشفته الغارة على النبطية التي قالت إن التمديد هو غطاء لعمليات استهداف وقائية إسرائيلية تجاه قدرات المقاومة، وهو ما يجب أخذه بجدّية. وجاءت الإشارة الثانية عبر الإعلان الإسرائيلي أمس، عن البقاء في جبل الشيخ إلى أجل غير محدّد. وهذا التصريح على الأرجح منسق أميركياً، وسوف يكون من بنود التزامات تطلب من الحكومة السورية الجديدة، لاستعادة مناطق السيطرة الأميركيّة وما فيها من ثروات نفطيّة.
– المترتبات السورية للقرار كثيرة، أولها تفاهم تركيّ أميركيّ على شكل إدارة سورية الجديدة، يجب أن يضمن أولاً المصالح الإسرائيلية، من خلال حرية الحركة في عمق معين يتم تحديده منطقة أمنية عازلة تريدها «إسرائيل» وتلتزم تركيا بعدم تعريضها للخطر ويقع جبل الشيخ ضمنها، ومن المترتبات إنجاز تشكيل حكومة انتقالية تفتح الطريق لبدء رفع العقوبات عن سورية تدريجياً. وهذا يعني أن الحكومة يفترض أن تستوفي شروطاً أميركية معينة، يرجّح أن يكون منها استرضاء الجانب العربي وطمأنته إلى التشارك في النفوذ مع تركيا في سورية الجديدة، ولكن في قلبها موقع ضامن للشراكة الكاملة يمنح للجماعات الكردية التي تحظى بالرعاية الأميركية، سواء في بناء الجيش الجديد أو في تركيبة مؤسسات الحكم الجديدة، وفي السياق ضمان مشاركات أخرى يهتم لها الأوروبيّون.
– من التداعيات التلقائية للقرار الأميركي الذي يتخذ من عنوان نهاية المعركة مع تنظيم داعش ويقول إنّها سبب انتهاء مهمة القوات الأميركية، التساؤل عن مبرر بقاء القوات الأميركية في العراق، وقد كانت الحجة التي قدّمتها القيادة العسكرية الأميركية في طلب تأخير سحب قواتها من العراق، هي الحاجة لتقديم خدمات وحماية للقوات الأميركية في سورية، في ظل الحاجة لبقاء تلك القوات في سورية، وما دامت هذه الحاجة قد انتفت، ومثلها القتال ضد تنظيم داعش، فعلى الأرجح أن يكون قرار الانسحاب من سورية جزءاً من صفقة أكبر تتضمن الانسحاب من العراق، وما يعنيه ذلك من حاجة لتفاهمات أميركية إقليمية تطال العلاقة مع إيران، كشريك كامل في رسم المشهد الجيوسياسي في العراق، وهذا يعني ترجيح فرص ولادة تفاهمات أميركية إيرانية حول الملف النووي تنتج مناخاً من الاسترخاء السياسي الضروري لولادة تفاهم حول مستقبل العراق.
– التفاهم مع إيران، حول ملفها النووي وحول العراق، يزيل العقبات من طريق التفاهم الإيراني السعودي لإيجاد حلّ في اليمن، بما يعني أن المنطقة عموماً ذاهبة الى ترتيبات سياسية تحكمها التسويات لا الحروب، وان حرب الطوفان بما ترتب عليها قد أعادت ترتيب الخريطة الجغرافية السياسية والعسكرية في المنطقة، يمكن أن نقرأ عبرها تزامن المعاهدة الروسية الإيرانية مع زيارة الوفد الروسي إلى دمشق، وكيفية التصرف الروسي خلال التقدّم نحو دمشق، على قاعدة اليقين بأن المعركة انتهت ولا بدّ من ترتيبات ما بعد التغيير في سورية، وهو ما يبدو أنه كان ضمن ترتيبات أبعد من تفاهم تركي روسي، ولم تكن واشنطن بعيدة عنه، ونحن نسمع الكلام الأميركي الروسي عن فرص التوصل إلى تفاهمات حول أوكرانيا، حيث يبدو أن ما خسرته أميركا عبر تراجع القدرة الإسرائيلية يفترض أن تعوّضه ترتيبات سورية الجديدة، بحيث يصبح الالتزام الأميركي بأمن «إسرائيل»، ضمان التسليح والتمويل وتقديم الدعم لخطوات أمنية إسرائيلية سوف تكون سورية ساحتها الرئيسية.

– لن يستطيع ترامب تقديم خدمات حقيقية لـ»إسرائيل» في تهجير سكان غزة رغم الكلام الذي قاله عن مشروع استيعاب بعضهم في الأردن ومصر، ولا شيء حقيقيّ يقدر على تقديمه ترامب في معركة الضفة الغربيّة، ومعادلات إسرائيل الصعبة، هي في ثلاثة أمور: الأول التناقض بين الحاجة لتعاون السلطة الفلسطينية أمنياً في مواجهة حركات المقاومة في الضفة الغربية من جهة، ومن جهة مقابلة درجة الضعف التي تصيب السلطة الفلسطينية سياسياً وأمنياً كلما بدت أقرب للسياسات الإسرائيلية، حيث التوحّش والإجرام يصيبان كل الشعب الفلسطيني، وحيث الغياب المطلق لكل أفق سياسي تفاوضي. الأمر الثاني هو التناقض بين ما تستطيعه واشنطن من مساعدة في التطبيع السعودي الإسرائيلي كمدخل لجعل «إسرائيل» جزءاً شرعياً في المشهد الإقليميّ، وبين ارتباط ذلك بقبول «إسرائيل» السير بحل للقضية الفلسطينية يقوم على إقامة دولة فلسطينية ترفضها «إسرائيل» بالمطلق، أما الأمر الثالث والأشد خطورة فهو مصير الوضع في الأردن الذي سيتحرّك على إيقاع الانسحاب الأميركي من سورية والعراق لمزيد من الحسابات المبنية على المصالح الأمنية للاستقرار الداخلي الأردنيّ، والقضية الفلسطينية عامل حاسم في هذا الاستقرار، خصوصاً أن الضفة الغربية على موعد مع التصعيد، وأن هاجس التهجير إلى الأردن حاضر عند الأردنيين، وفكرة الوطن البديل لم تغادر عقول الإسرائيليين.