لا شك، وإلى حد الإجماع، أن ثورة 23 يوليو 1952م، هي من أعظم الثورات في القرن العشرين، لما تتصف به من السلمية (الثورة البيضاء)، فلم تكن ثورة حمراء مليئة بالدماء، كما حدث في ثورات أخرى مثل الثورة البلشفية في روسيا، والثورة الفرنسية، وحتى الثورة الإنجليزية. كما أنها ثورة وطنية قام بها مجموعة من الشباب الوطني يتسم بالبراءة وحب الوطن والغيرة عليه. ثم إن هذه الثورة بدأت كحركة وطنية بيضاء، وأفصحت عن أهدافها الستة (ثلاثة هدم + ثلاثة بناء) من لحظة اندلاعها، ثم تحولت إلى ثورة شاملة بعد (48) يوماً، بصدور قانون الإصلاح الزراعي وإعادة توزيع الثروة في البلاد بما يحقق العدل الاجتماعي. فانفجر التأييد الشعبي في عموم البلاد دعماً للثورة، لأن الشعب المصري أدرك أن قادة هذه الحركة هم جزء لا يتجزأ من نسيج الوطن، ولا يبغون السلطة في حد ذاتها. ولعل ما يذكر في هذا الصدد، أن أول من أطلق لفظة “ثورة”، على الحركة البيضاء، هو الدكتور/ طه حسين، الذي كتب مقالاً، تحيةً وتأييداً للحركة، قائلاً أن هذه الحركة “ثورة” حقيقية، لأنها تهدف إلى التغيير الجذري، ومطالباً قادتها أن يستمروا في تغيير النظام القائم، وتأسيس نظام جديد تماماً. وعندما علم عبد الناصر بذلك وجّه له التحية، وردّ بأن مجلس قيادة الثورة يريد ثورةً فعلية، ويسعى إلى تغيير النظام وليس إلى إصلاحه، ولكنهم بدؤوا باستخدام “حركة الضباط الأحرار”، حتى يتجنبوا المبالغة، وحتى تصل إلى الناس، ليتبنّوها ويشعروا أنها حركة تستهدف تحقيق مصالح الناس أكثر، وبشكل مباشر
والسؤال حول دور ثورة 23 يوليو.. وإعادة بناء النظام الدولي؟ … فإن الرد ببساطة هو أن سنوات الثورة الأربع الأولى (1952- 1956م) هي أساس تكوين الدور الحقيقي لمصر، وما بعد ذلك (أي بعد 1956م)، كان تفاصيل بالوقائع والإنجازات والمؤامرات، كما حدث في المؤامرة على تجربة الوحدة الاندماجية بين مصر وسوريا (1958- 1961م)، والمؤامرة على مصر في 5 يونيو 1967م، التي عرّضت مصر لنكسة كبرى، استطاعت تجاوزها بالتحام القائد بشعبه، وإعادة بناء الجيش، وخوض معارك الاستنزاف (67- 1970م)، تمهيداً وإعداداً لحرب أكتوبر 1973م، فيما بعد.
فقد كان أمام قادة الثورة، مهام جسيمة، وهم في ضيق من الوقت، لا يستطيعون إضاعة دقيقة واحدة. ومن هنا تطلّب الأمر الحسم في إدارة الأزمات تحت ضغط الوقت، وإلا لكان الفشل من نصيب الثورة، وقطع رقاب قادتها هو الثمن!! فقد كان أمامهم طرد المستعمر، وطرد الملك، وتحقيق الجلاء الكامل عن البلاد، وإنهاء عصر استيلاء أسرة محمد علي عبر (150) سنة على السلطة في البلاد – وهم أسرة غير مصرية – ليتولى إدارةَ الشؤون المصرية مصريون. ويبدو أن البعض لا يزال يعشق العبودية لكل ما هو أجنبي، وهؤلاء لا يزالون يرون أن عصر الملكية (ما قبل ثورة 1952م) كان أفضل!! وفي نفس الوقت كان أهمَّ التحديات بناءُ جيش وطني حقيقي في خدمة الشعب، وإعادةُ تسليحه بما هو حديث. وفي الداخل – توازياً مع القضايا الخارجية – كان لابد من تعميق المساواة والعدالة الاجتماعية، تحقيقياً لقانون الإصلاح الزراعي وإعادة توزيع الملكية، ومواجهة سيطرة الرأسمالية على السلطة والحكم ومقدرات البلد، ليكون الشعب شريكاً فيما يحدث، ويكونَ ظهيراً للثورة في خوض معاركها الكبرى القادمة.
ولذلك فقد تم طرد الملك فاروق إجبارياً، بعد اتصاله مع السفير البريطاني لحمايته من الثورة ومنعِ سقوط حكمه، ولم يكن لدى الإنجليز القدرةُ على ذلك، فتخلَّوا عنه مجبرين، ليخرج الملك من البلاد. وبعد ذلك بعام تم إسقاط حكم أسرة محمد علي الملكية، وتغييرُ مصر إلى جمهورية. ثم بدأ التحرك على الجانب الآخر، بإنهاء الاحتلال الاستعماري الإنجليزي، الذي لم يجد بداً من الدخول في الحوار بشأن الجلاء، فعقدت اتفاقية الجلاء عام 1954م، وخرج آخر جندي بريطاني في 18 يونيو 1956م. وخلال الرحيل الاستعماري، رفض الغرب تسليح الجيش المصري، فكان قرار الثورة بعقد صفقة الأسلحة التشيكية والصفقةِ مع الاتحاد السوفيتي عام 1955م، وهو إشارة إلى التوجه شرقاً. ثم كانت معركة غزة عام 1955م، لاستدراج مصر إلى خارج مربع أولوياتها آنذاك، ولم يكن الداخل قد تمت السيطرة عليه، فتفاعلت الثورة بحساب وبقدر معين، لتفادي المعركة في غير أوانها، والتي قد تفضي إلى الإطاحة بالثورة. في نفس الوقت، طلبت الثورة دعم صندوق النقد والبنك الدولي، لتمويل السد العالي، ورفضا أيضاً. وهما مؤسستان ماليتان سياسيتان تلعبان دوراً تخريبياً في دول العالم الثالث، لذا علينا الانتباه لدورهما السلبي والمعادي للشعوب. وقد كان عبد الناصر يُعدُّ العُدّة لتأميم قناة السويس بالدراسة الشاملة، في الإدارة والتوقيت والتداعيات.
وعندما تم الجلاء التام في يونيو 1956م، أعلن عبد الناصر تأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956م (بعد شهر ونصف من الجلاء الإنجليزي عن مصر)، ليستعيد القناة للشعب المصري (المالك الحقيقي)، رداً على عدم تمويل السد العالي، وسياسات الغرب المعادية لمصر والثورة. ثم تحالفت بريطانيا وفرنسا وربيبتهما دولة الكيان الصهيوني، بالعدوان الثلاثي على مصر في 29 أكتوبر 1956م، للسيطرة على القناة، واحتلال ضفتيها من الجانبين، ابتداءً من بورسعيد. إلا أن مصر انتصرت من خلال إدارة الثورة لهذا الحدث بالحشد الشعبي، وأجبرت دولَ العدوان على الرحيل بعد هزيمتهم، وبدور دولي من أمريكا والاتحاد السوفيتي.
وقد شهد العالم على أن ثورة 23 يوليو كانت هي السبب في سقوط القوى الدولية القديمة (بريطانيا وفرنسا)، لتتقدم (أمريكا والاتحاد السوفيتي)، وإعادةِ بناء النظام الدولي آنذاك، بثنائية جديدة، بديلاً عن نظام متعدد الأقطاب، الذي كان سائداً أيام الحرب العالمية الثانية. وربما، لو لم تحدث معركة 1956م، أو لم يتمَّ تأميم قناة السويس، لما كنا قد شهدنا ميلاد نظام دولي جديد، وربما كانت قد فشلت الثورة – لا قدر الله -. وهو ما لم يحدث بإرادة قادة الثورة وزعيمها جمال عبد الناصر. علماً بأن قادة الثورة جميعهم، لم تكن تتجاوز أعمارهم – بما فيهم ناصر – الأربعين عاماً!!
القاهرة في 27/ يوليو – تموز / 2024مد/ جمال زهران