فجأة، استيقظَ العالم الحر وقرر إدانة قادة الإجرام في الكيان الصهيوني، حيث أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرةَ اعتقالٍ بحق كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير حربه المقال يواف غالانت ليصبحا مطاردَين كخارجين عن القانون في مطارات العالم.
قضاة المحكمة الجنائية الدولية رأوا في قرارهم بأن نتنياهو هو الوجه الآخر لأدولف هتلر، وأن ارتكاباته تتلاقى بإجرامها مع ما ارتكبه سفاح العصر من جرائم، مع ذلك بدَت هذه العبارات منقوصة، إذا ما سلمنا بأن نتنياهو يمثل دولة اسمها إسرائيل كانت ولا تزال محكومة بطموحات السيطرة والتوسع بنيران القتل والتدمير والإجرام بصورةٍ مشابهة لما قامت به النازية كدولة حكمها مرض الطموح القاتل بضم روسيا وفرنسا إلى أراضيها، ليصبح السؤال المنطقي الذي يتجاهل الإجابة عنه ذات العالم الحر الذي استيقظ: هل أن نتنياهو ووزير حربه أشخاص هبطوا من السماء أو أنهم ينفذون تعاليم الرب الذي يمنح دولة الإجرام الإسرائيلية صكوك الغفران لأنه حسب زعمهم وزعم كل من يتاجر بصكوك غفرانٍ متشابهة لا يقبل باحتساء نخب الجنة إلا بكأسٍ مملوء بدماء الأطفال على موسيقا صرخات النساء المكلومة أو المأخوذة كسبايا عصور الجاهلية!
لا جواب لأننا محكومون بالتناقضات، يا للمفارقة فإن رفع اليد أمام الجسد حتى ولو كان كردة فعلٍ على تسجيل هدف على ملعب كرة قدم هو تشبه بالنازية قد يقودك إلى السجن، والحرمان، وحتى النبذ على طريقة العصور الوسطى مع المصابين بالجذام، أما انتقاد الدولة التي يدافع نتنياهو بإجرامه عن طموحاتها فهو فعل فاضح في شوارع المدن الفاضلة، يقودك إلى جرم معاداة السامية، تخيلوا أن نكونَ نحن الساميون متهمين بمعاداة أنفسنا، تناقضات تثير الشفقة ليس فقط على من يظنون بأن قرارات كهذه ستمحي عقوداً من صمتهم على الإجرام، لكن على من مازالت قرارات كهذه تداعب عواطفهم والحلم بعدالة دولية تقتص من الجميع!
على الجهة المقابلة، قد تبدو هذه المقاربة فيها الكثير من التجني على مسار العدالة الدولية، بمعنى آخر فإن تجريم النازية أو تجريم التعاطف معها إلى هذا الحد، ما كان ليكون لولا هزيمتها وانهيارها، وبالتالي من الطبيعي أن يكتب المنتصر ما يشاء، وربما الصورة ستكون معاكسة فيما لو انتصرَ هتلر، لرأينا اليوم قانون تجريم الماركسية مثلاً، بل لو ذهبنا للسياق الأضيق، فحتى من جاؤوا على ظهر دبابة أميركية ليحكموا العراق بعد احتلاله وسقوط نظام صدام حسين فإن أول ما فعلوه هو قانون «اجتثاث البعث» وتجريم المنتسبين إليه، إنه الزمن حين يدور ببساطة.
بالسياق ذاته علينا ألا ننسى الدور الكبير للدعاية المتعلقة بأعداد من قتلوا في المحارق النازية، وأرسى ردات الفعل تلك ضدها بهذا التطرف القانوني والإنساني، أما الحالة اليوم فلا تبدو متشابهة، لأن إسرائيل لم تسقط بعد وحلم الجمع بين ضفتي الفرات والنيل مازال في أوجِه، وصدور قرار كهذا وسطَ كل ما تمتلكه إسرائيل من سطوة بالاستناد إلى الولايات المتحدة الأميركية، يجعل صدوره إنجازاً تاريخياً يصبح من حق الأحرار معه في هذا العالم أن يفرحوا لهذا القرار التاريخي حيث لم يحدث منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى اتهام رئيس وزراء دولة ووزير حربه بجرائم إبادة جماعية في دولةٍ ثانية، أليس من المفترض أن ننظر للقرار انطلاقاً من شجاعة القضاة، وشكر كل من وقفَ خلفه من دول منذ اللحظة الأولى لانطلاق مبادرة إحالة الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية وبمعظمها دول «غير عربية» للأسف، في الوقت الذي كانت معه معظم الدول العربية تتلهى بكيفية لعب دور الوسيط لإنقاذ الرهائن الإسرائيليين من يد المقاومة وتفتح العنان لإعلامها لمهاجمة المبادرة بإحالة ملف الحرب إلى المحكمة الجنائية الدولية خوفاً من سرقة «الدور التاريخي» لهذه الدولة أو تلك!
يبدو الجواب بواقعية تامة نعم، فكل ما يتعلق بمخرجات هذا القرار يبدو مثيراً للاهتمام بمعاني العدالة الدولية والقانون الدولي عندما يتم تطبيقه بشكل سليم بعيداً عن كل الضغوط، بل ويمكننا أن نوجه تحية خاصة لطاقم القضاة الذين لم يخضعوا لأي ضغط أو ابتزاز، لكن كل هذه العبارات يجب ألا تجعلنا نسلك سلوك «لا تقربوا الصلاة…» فقرارات العدالة الدولية لا يجب التعاطي معها بانتقائية حسب مزاجنا، والسبب هنا بسيط جداً لأن معظم من يهلل للقرار يتجاهل بأن قرارات المحكمة ذاتها يتضمن طلب اعتقال القيادي في حركة حماس محمد الضيف للأسباب ذاتها، أي ارتكاب «جرائم ضد الإنسانية»، وربما لو بقي القيادي الآخر في الحركة يحيى السنوار على قيد الحياة قبل إعلان إسرائيل مقتله بطريقة هوليودية، لكان هو الآخر من المدرجةِ أسماؤهم في القرار، اللافت هنا أن من رحبوا بشجاعة العدالة الدولية في القرار المتعلق بنتنياهو هاجموه فيما يتعلق بالضيف، لكن بصراحة تبدو هذه المقاربة غير
منطقية لأنك إن آمنت بمسار العدالة الدولية فعليك أن تتقبلها بحلوها ومرها أو ترفضها بحلوها ومرها، وهو ببساطة ما يريده أولئك الذين سهلوا صدور القرار ولو كانوا قد عارضوه شكلاً، والذي يمكننا اختصاره بما يلي:
أولاً: يبدو القرار حالة إعلامية وقنبلة صوتية لا أكثر، ساوى بين الضحية والجلاد بطريقة كان على الضحية أو من يدعي تمثيلها رفض القرار وليس التهليل له، لنتخيل أن كل ما ارتكبته إسرائيل قرابة عامٍ كامل من جرائم قتل وإرهاب وتهجير وإبادة جماعية وتجويع ومهاجمة للمستشفيات والأبنية المدنية والمدارس في ثلاث دول عربية، يساوي في مسار العدالة الدولية ما ارتكبته حماس في يوم السابع من تشرين الأول من العام الماضي! على اعتبار أن الحركة ومن معها بعد هذا اليوم أخذت دور المدافِع لا أكثر، قانونياً تبدو المحكمة وقد طبقت القواعد القانونية على الطرفين بعد تشريحها للوقائع المرتبطة بكل هجوم من طرف على الطرف الآخر، وهو ما يطلبون منك أن تقتنع به، لكي تنسى إنسانية قرارات كهذه من عدمها.
ثانياً: إن النجاح بفرض تلك الصورة عن المساواة بين الضحية والجلاد، هو صورة مشابهة لثقة من سهلوا صدور القرار باستحالةِ تطبيقه، حتى مع إعلان الكثير من الدول ومن بينها دول وازنة في السياسة الدولية ترحيبها بالقرار واستعدادها لتطبيقه، إلا أن الأمر يبدو بيع كلام لا أكثر، لنأخذ مثالاً الاتحاد الأوروبي الذي ترك الخيار لدوله لتطبيق القرار من عدمه، فالمجر رفضت القرار وهي على لسان رئيس وزرائها فيكتور أوروبان مستعدة لاستضافة نتنياهو بأي وقت، فهل ستقوم الدول التي اعتبرت نفسها معنية بتطبيق القرار بإجبار طائرة نتنياهو على الهبوط إن حلقت في أجوائها لاعتقاله؟! الجواب قطعاً لا.
ثالثاً: تمكنت الدول التي هللت للقرار من التخلص ولو جزئياً من العبء الأخلاقي المتمثل بالجرائم التي ارتكبتها دولة إسرائيل وما خلفته من كشف لحقيقة ادعاءاتها الإنسانية عبر سكوتها من جهة وتورطها من جهة أخرى في هذه الجرائم، بما فيها حماية الكيان كدولة في المحافل الدولية، فكان الحل بالضرب بالحلقة الأضعف وهو بنيامين نتنياهو، فكيف ذلك؟
يدرك هذا الغرب المتورط بكل هذه الجرائم أن مستقبل نتنياهو السياسي انتهى، أياً كانت نتيجة هذهِ الحرب وأياً كان المسار التفاوضي الذي سيؤدي إلى حلول شبه نهائية فإن مستقبل نتنياهو السياسي انتهى داخلياً قبل أن يتم عزله دولياً، لكن الغرب الذي ينظر دائماً بواقعية سياسية وجدَ في قرار المحكمة اللحظة المناسبة للتضحية بنتنياهو إنقاذاً لسمعةِ إسرائيل، وإظهار هذه الدول كباحث عن العدالة الدولية، عكس من ينظر بعاطفة تحكمها الشعارات المملة ويعتبر سقوط نتنياهو انتصاراً، بمعنى أن نتنياهو لن يبقى في منصبه تحت أي ذريعة تحديداً مع وصول الإدارة الأميركية الجديدة فلماذا لا تبيع العالم المتحضر جثة سياسية هامدة لا معنى لمحاكمتها من عدمها؟
تبدو هذه الفرضية مثيرة للاهتمام قبل الفرق بسواقي التطبيل، فقد قيلَ يوماً إن تحقيق العدالة يتطلب عدم توفير ملاذات آمنة للمرتكبين كي لا يُعاودوا ارتكاب جرائمهم، ربما عليهم أن يضيفوا إلى هذه العبارة كلمة دول، لأن المجرم الذي نتحدث عنه لا يمثل نفسه بل يمثل تفكير دولة ويمتلك دولاً كملاذات آمنة، بالتالي وللأسف أقول ذلك، هذا القرار لا يساوي الحبر الذي كتب فيه، شكلياً، وضمنياً أفاد إسرائيل والغرب أكثر ما أضرَّ بهم، وهل هناك من إفادة لمجرم أكبر من مساواته بالضحية؟!
الناشر:صحيفة الوطن السورية
فراس عزيز ديب
كاتب سوري مقيم في فرنسا