إن من يمُت ويقضِ وهو قائمٌ في سبيل قضيةٍ محقة، فهو شهيد، والسبب في نظري أن الشهيد سمي شهيداً لأنه بلغ أقصى حد من الجهد، وتجاوز كل الأعذار حتى مات، فشهد على جميع من تبقوا وترك لهم السؤال: ما الذي يمنعكم؟! فالطريق ممكن. فالشهيد شهيدٌ على من تبقى، لم يترك لهم عذراً، وترك جواباً يشهد على الجميع بأن الطريق ممكن. وبين الشاهد والشهيد فرق، أن الشاهد يشهد ويمضي، والشهيد شهادته قائمة مستقرة تظل في فؤاد الذين يسمعون شهادته وتظل تسألهم: ما الذي يمنعكم؟ّ! فالطريق ممكن، حتى يتسجيبوا.


ربما كنت قد سمعتُ من قبل بالمناضل العميد الدكتور أمين حطيط، ولكنني لم أكن أعرف من هو، وهو قصور بالغٌ مني، وبرغم ذلك فقد حزنت لفَقدِهِ كفقد شخص قريب. فكرتُ مليّاً حتى أدركت أن السبب وراء هذا الحزن الذي اعتراني هو أنني نعم لم أكن أعرفه، ولكنني أعرف القضية المحقة التي بذل حياته قائماً لأجلها، والتي هي السبب وراء كتابتي هذه، وهي محاربة الكيان الصهيوني الذي جاء ليسرق الأرض والدار وليشيع الموت في بلاد الشام. فكأننا جميعاً، أصحابَ القضية، والعقيد الأمين، بُعثنا في هذا الزمان لذات السبب والغاية، وهذه الحال مع كل شهيدٍ نعرفه أو لا نعرفه.


أقول، نعم شهيد، فمن مات وهو قائمٌ في حال، يُبعث عليها. فمن كان يمشي في سبيل الحق، ومات لسبب عارضٍ خارج إرادته فهو أيضاً شهيد. فقد علمت من المقربين من العميد الأمين بأنه لم يكن يعرف للنوم طعماً في سبيل مواجهة العدو الصهيوني، فقد كان هو القائم على ضمان ترسيم الحدود في معركة 2000 عندما دُحر الصهاينة، وقد كان هو الذي نال شرف التأكد من أن الأرض طاهرة من أي دنسٍ صهيوني عليها. هو ابنُ لبنان، أرض بلاد الشام التي جادت برجالاتها وقادتها وكتابها وسياسييها في مواجهة الاستعمار والمخططات الصهيونية في المنطقة.


ماذا أملك اليوم لأعرف عن العميد وقد رحل، إلا كتاباته التي ورثناها! والذي دفعني إلى هذا البحث، غيوم الحزن التي أظلت على من يعرفونه عن قرب، فعلمت أننا اليوم فقدنا راحلاً عظيماً لم أنل شرف اللقاء به وشرف معرفته.


فأقرأ من كتابات العميد اميركا واستراتيجيتها الجديدة: هل تخرج من العراق وسورية؟ مقالةٌ كتبها عام 2021، فأراه يجيب عن أسئلة اليوم بأن أمريكا لن تذهب إلى حربٍ كبرى، وبأن خروجها من العراق وسوريا سيكون مسألةً صعبة، وذلك لأهمية منطقتنا في نظر المستعمرين، فمن يسيطر على بلاد الشام وبلاد الرافدين يحكم العالم. بل وقد وضع الأمين الراحل تشخيصاً لما يريده الأمريكي في تلك المرحلة التي تلت انسحابه من أفغانستان، وإنني قد قرأت في ثناياها جواباً على أن توقيت السابع من أكتوبر كان توقيتاً ذهبياً.


و في التطبيـع المتسـارع .. هل يُصفّي قضيّة فلسطين فعليّا؟ جلى الأمين الصورة الحقيقية للتطبيع، بأن التطبيع كاشفٌ لما كان، وأن المقاومة لم تخسر شيئاً بهذا التطبيع، حيث لم تكن تلك الأنظمة العربية يوماً صديقةً فانقلبت بالتطبيع!.. ويرى الأمين بأن التطبيع قد وضع الشعوب أمام مسؤولياتها بالرفض التام وبضرورة التصرف. ويجيب بأنه يستحيل للتطبيع أن يكون سبباً في تصفية القضية الفلسطينية، حيثُ أن تصاعد المحور وتصاعد قوته يعطف على الأزمات الديموغرافية الفلسطينية.


أما عن الهوية، فقد قدم العميد الراحل نظرةً منطقية ومنهجية في التصدي للمخاطر التي قد تصدع الهوية الوطنية، ففي ما كتبَ في حماية الهوية الوطنية من التصدع بفعل التدخل والمشاريع الخارجية يذكر الراحلُ الكبير العناصر المكونة للهوية ويجلّي لمن يرى كيف يمكن للتدخل والمشاريع الدخيلة أن تؤثر فيها بأبعاد متعددة:

1- الجغرافيا: يعد اقتطاع الأرض أو احتلالها من أخطر ما يخلق حالةً من الازدواج في الهوية،

2- التاريخ والتراث: فكل سلوكٍ يطمس من التاريخ والتراث شيئاً هو تهديد للهوية، كما حدث في سوريا والعراق من استهدافٍ للأماكن الأثرية التي تنبئ عن تاريخ المكان لكل جيل.

3- المصالح الاقتصادية والمعيشية: اختصرها الأمين بقول الإمام علي: ” الفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن “ومن هذا الباب يبين الأمين بأن التدخلات الخارجية والضغوط الاقتصادية التي تمارس على مجتمع معين، تهدفُ إلى دفعه الى الوهن في التمسك بهويته والتوجه الى الهجرة التي إذا تعاظمت قد تصل بالمجتمع الى التفكك.

4- الخطر والأهداف المشتركة: يبين الأمين أن التدخلات الخارجية تعمل جاهدة على إزاحة بوصلة الخطر وتوجيهه إلى داخل المجتمع لتفكيكه أو إلى خارجه بشكل يصنع النزاع والتفسخ، ومن هذا ما يحدث من ضياعٍ للبوصلة في صداقة الكيان المحتل واستعداء إيران، ويصفها الأمين بأكبر عملية تزوير وتحريف تشهدها المنطقة في الحقبة المعاصرة.
5- إرادة العيش المشترك للتمتع بالحقوق والالتزام بالموجبات المتساوية: وهي مسألةٌ حساسةٌ أشار لها الأمين بحذر، حيث تدفع التدخلات الخارجية، ترغيباً أو قسراً بدفع الناس إلى اختيار هوياتٍ أخرى من خلال التهجير الجماعي وإلزامهم بهوياتٍ لا يريدونها، هوياتٍ ترتكز إلى عوامل عرقية أو دينية إثنية أخرى. ولم يكتفِ الأمين بعرض المشكلة، بل وضع لها حلولاً عملية هي نتاج الجهد الجماعي في أي مجتمع.


هذا بعضٌ يسيرٌ من حروف الأمين، اخترتُ أن أضعها بين أيديكم، ومضاتٍ فكرية وطنية تنبئنا عن المكان الذي وضع الأمين فيه قلبه وفكره، فقد كان الأمين مفكراً سياسياً ومعلماً وطنياً بالسلاح وبالمعرفة، حياً بعد مماته ومحارباً بكلماته التي ما زالت بين أيدينا، واضعاً لنا الحلول وسائلاً إيانا، ما الذي يمنعكم؟! فالطريق ممكن.

إلى روح العميد الدكتور أمين حطيط السلام.

آدم سرطاوي-كندا