في العادة يُسمى من يُتوقع منهم أن يكونوا في صف هويتهم وتاريخهم في المواقف الحاسمة فيُخلفون ذلك بالمنافقين. ولُغوياً بالعودة إلى المعجم الاشتقاقي نجد أن المعنى المفاهيمي للجذر “نفق” هو إذهاب حشو الشيء ليفرغ باطنه مع بقاء ظاهره ملتئمًا. بصورة أخرى، هم من كنا نظن بأن التاريخ والجغرافيا والمظلة الواحدة للهوية بيننا وبينهم قد رسمت خطاً للحد الأقصى الذي يمكن أن تذهب إليه خلافاتنا معهم دون أن يتجاوزوه، وهو خط الهوية ووحدة الجبهة أمام أي عدو محتمل على البلاد، ولكنهم تجاوزا هذا الخط وكأنهم مُفرغون تماما من كل عوامل الهوية المشتركة بيننا وبينهم، ولم يبقَ منهم إلى ظاهر الممارسات الثقافية التي يشبهوننا بها.

ليست هذه الظاهرة بظاهرة جديدة على الإنسانية، فلطالما كانت هذه المجموعة من الناس تقف في صف العدو على مدى التاريخ وتلعب دوراً في إضعاف جبهة الهوية الوطنية أثناء المواجهة وأثناء المواقف الحاسمة، بل لا تظهر هذه الفئة من الناس إلا في المواقف الحاسمة في التاريخ. والسبب في ظهورها هو سبب نفسي يتمحور حول مفهوم “الاغتراب الذاتي”، حيث يشعر الإنسان فيهم بأنه لا ينتمي إلى السياق الذي هو منه، ويحدث ذلك لأسباب كثيرة كالإحباط بسبب فشل في هويتهم الفرعية الخاصة بهم فلم تُسعفهم لأن ينضموا إلى مسيرة الهوية الكلية، أو بسبب التشبع بالاديولوجيات المناوئة التي سببت تآكلاً في هويتهم لصالح هوية العدو، وهو ما نسميه بغسيل الدماغ.

ومنذ بدأ الطوفان المبارك الحاسم الذي تواجه فيه الأمة مصيرها بالتخلص من الكيان الرابض على جسدها والذي يمتص دماءها، ظهرت هذه الفئة التي تعاني من اغتراب ذاتي وفقدانٍ للهوية لتصدر خطاباً يعبر عن هذا الاغتراب وعن فقدانٍ للهوية عميق في مستوياته، حيث تقف أمام ظواهره (أي الخطاب) باستغرابٍ شديد، إذ يعبر خطابهم عن حالة منفصلة عن سياق الهوية ومنفصلة عن سياق خطاب العدو نفسه!

واحدة من الظواهر المثيرة للاستغراب من هؤلاء هي تسترهم خلف خطابات إنسانية يدعون بها إلى وقف الدم والحرب، فكتبوا وقالوا: “أوقفوا الحرب الآن لقد متنا!”. لم يقولوا ذلك عند بداية الطوفان عندما بدأ الموت يحصد أهل غزة، لم تخرج أصواتهم ولم يقولوا شيئاً، وهو ما يظهر أن حالة الاغتراب عن الذات لديهم تجاوزت حتى الحدود الإنسانية، لأننا سمعنا أصواتاً تطالب بوقف هذا الدم من أناسٍ يقطنون على مسافة قارات ويختلفون عنا بالهوية والتاريخ والعرق، ولكننا لم نسمع من هؤلاء شيئاً.

وإنني أيضاً أتأمل في هذه الدعوة مستغرباً، وأفترض بأنني غريب عن السياق والمشهد، فأسمع الذين يصرخون ويطالبون بوقف الحرب الآن وبنزع السلاح، فأظن كغريب بأنهم يتحدثون عن نزاعٍ داخلي بين فئاتٍ يفترض بها المؤاخاة في داخل البلد الواحد، فأقول، ونِعم العقل، السلام واجبٌ بين أهل الإخوة وبين أهل البلد الواحد. ولكن، عندما أكتشف بأن هذا الصراخ يقال في سياق احتلال عسكري توسعي صهيوني غريب في لسانه وبشرته وعاداته، فإنني عندها سأفترض كغريب بأن صرخات هؤلاء هي صرخات استسلام ورفعٍ للراية البيضاء بعد أن حاولوا الدفاع عن البلاد ضد المحتل فلم يستطيعوا، ولكن عندما أكتشف بأن هناك محتل يسعى للتوسع ويهدد الأمن، وبأنهم لم يحاولوا أن يصدوا هذا المحتل، وبأن غيرهم اتخذوا خيار صد العدوان، فنتج عن ذلك بأنهم بدأوا بالصراخ، فأستغرب من أن هؤلاء وقفوا موقفاً قبل المحاولة وبعد الإستسلام! فما هي هذه الحالة التي تدفع إلى أن لا تحاول صد العدوان وأن تنتقل بنفسك إلى ما بعد مرحلة الإستسلام؟! أليست هذه هي أمنية العدو نفسه؟!

وإن أمراً آخر في غاية الغرابة، هو أن هذه الأصوات تتعالى في الوقت الذي يصرخ فيه العدو من ضربات المقاومة! فبرغم التعتيم الإعلامي الشديد الذي يمارسه العدو على إعلامه إلا أننا ما زلنا نسمع بتصريحات تعبر عن الأزمة الوجودية وعن الألم الشديد والضعضعة الشديدة التي يمر بها الكيان، فيعترف يهود باراك، رئيس وزراء الكيان الأسبق ويقول: “هجوم حماس في السابع من أكتوبر كسر الخوف من أسرائيل، ونجح في إلهام ملايين العرب والمسلمين!” لكنها لم تلهم هؤلاء!، غير التصريحات الأخرى التي تبين خسائر فادحة في جيش المشاة ونقصٍ في الذخيرة، وانهيارات في الأسواق التكنولوجية قطاعات آخرى وإغلاقات لشركات ضخمة وموانئ. ولا يحدث كل ذلك دون أزمات نفسية داخل مجتمع العدو الهش! وبالرغم من ذلك، وبعد تحقيق هذا المنجز التاريخي في ضرب العدو وخلخلة آركانه يطالب هؤلاء بالوقف الحالي والتام للمعركة! فمن هو عدوهم؟!

مفارقات عجيبة تظهر لدينا كلما تأملنا في المشهد تدل على عمقٍ في ضياع الهوية ومدى إفراغ عقول هؤلاء من المحتوى الهوياتي الوطني حتى كأنهم أجساد في الوطن ولكنها تعاني من اغتراب داخلي شديد يفصلهم عن سياق بلاد الشام وتاريخها وماؤها وهواؤها. وهنا تصدح كلمة الشهيد القائد السنوار في مواجهة هذا المرض النفسي العضال: اللي عاجبه عاجبه…

واللي مش عاجبه خاوة ورُغماً عن أنفِه.

آدم السرطاوي – كندا