كثرتْ في الآونةِ الأخيرةِ أصداءٌ تتحدَّثُ أنَّ أحدَ أوجه المعركةٍ الدائرةِ الآنَ في غزة ، هي أنَّها معركةٌ بين ثقافةِ الحياةِ وثقافةِ الموتِ وهو كلامٌ صحيحٌ ولكنَّ الكلامَ يصبحُ ادِّعاءً باطلاً إذا لم يتخذِ الإنسانُ الموقفَ الصحيحَ، فلا يكون هذا الكلامُ صحيحاً إذا كان صاحبُ القولِ يقفُ في صفِّ القاتلِ الذي يصنعُ الموتَ، ويصبح صحيحاً إذا كان القائلُ يقفُ في صفِّ الحياةِ ويصنعُ الحياةَ. وكما نعلمُ جميعاً ،فالكلامُ من صفة المتكلِّمِ، وشخصيةُ القائلِ وموقفه وسياقه جزءٌ لا يتجزَّأُ من كلامِه.

يقولُ الفيزيائيون بأنَّ الطاقةَ لا تفنى ولا تُستحدَثُ من العدمِ، و دون الخوضِ إلى العمق؛ ففي هذا إشارةٌ إلى تحوُّلِ أشكالِ الطَّاقة في حركةٍ مستمرة. والحياةُ بلا حركةٍ لا تسمَّى حياةً، فنقول عن الجسدِ إذا فقدَ الحراكَ التامَّ أنَّه جسدٌ ميتٌ، وعلى هذا الأساسِ فالحياةُ هي تلك الطاقةُ المندفعةُ المتحرِّكةُ في الأجسادِ، حيثُ تصلُ فيها التحوُّلاتُ إلى أقصى مدىً فيها، فمَن ماتَ طفلاً، لم يصل إلى أقصى مداه، فنستطيع القولَ أنْ لا حياةً مضت لمَن ماتَ طفلاً.فمِن ذلك كلِّه نفهمُ أنَّ الحياةَ وجودٌ جوهرهُ الحركةُ الحُرَّةُ، والنموُّ إلى أقصى مدىً، و اندفاعةٌ مستمرةٌ بالتعاقبِ والتحوُّلِ دونَ فناء.

قبلَ السابعِ من أكتوبر، ولأكثرَ من سبعِة عقودٍ مضَتْ، كان يعيشُ الفلسطينيون تحتَ وطأةِ التضييقِ والتطهيرِ العرقيِّ الممنهَجِ والأدلجةِ القاتلةِ للهويَّة الفلسطينيَّة، ويبلغُ كلُّ ذلك ذروتَه كلَّ حينٍ في مذابحَ متعددةٍ كان يقيمها الكيان الصهيونيُّ كجزءٍ من معركتِه المستمرَّةِ التوسُّعيَّة ضدَّ الفلسطينيين وضدَّ وجودِهم كمذبحةِ ناصرِ الدين، ومذبحة الطّيرة، ودير ياسين وغيرها، وبين مذبحةٍ وأخرى حيث الناسُ آمنون أمناً ظرفياً داخلَ حدودِهم في دولِ الطوقِ، كان الكيانُ الصهيونيُّ مستمرَّاً في حملاته الاعتقالية للشباب والنساء والشيوخ وحتى الأطفالِ حتى بلغَ عددُ الأسرى اليوم 9700 أسيرٍ، منهم 250 طفلٍ ، و3380 أسيرٍ معتقلٍ إدارياً بلا حكمٍ، ومئاتٌ منهم قضَوا أكثرَ من 20 سنةً بالفعلِ، ومئاتٌ أخرى تحتَ حكمِ الأسْرِ مدى الحياة. و يملك فلسطينيون آخرون مدىً أكبرَ في الحركة من الأسرى في السُّجون، وهم الفلسطينيون الذين يعيشون داخلَ جدارٍ عازلٍ يحيط بهم، طوله 700 كيلو متراً ومعدل ارتفاعه 8 متراتٍ يحجبُ عن الكثيرِ من الفلسطينيين ضوءَ الشمسِ ورؤيةَ المدى، حتى أصبحت الضّفةُ منطقةً معلّبةً ،وفي داخلِ هذه العلبة أكثرُ من 700 حاجزٍ صهيونيٍّ، يمرُّ الفلسطينيُّ من هذه الحواجزِ حياً في أغلبِ الأوقاتِ، وفي أوقاتٍ كثيرةٍ يتحوَّلُ هذا الحاجزُ إلى حاجزٍ عن الحياة، حيث يموتُ الفلسطينيُّ هناك. وفوقَ هذا الضِّيقِ الفيزيائيِّ في الحركة، تستمرُّ الاقتحاماتُ ويستمرُّ التضييقُ النَّفسيُّ والماليُّ على الفلسطينيينَ في الضَّفة بشكلٍ مستمرٍّ، حيث تتوسَّعُ المستوطناتُ ويستمرُّ المستوطِنون بتصرُّفاتِهم الاعتدائيَّةِ في تخريبِ المزروعاتِ وحرقِها.وليسَ الفلسطينيون في الدَّاخلِ المحتلِّ بمأمَنٍ من التوغُّل الصَّهيوني، فكلامهم وسلوكهم مراقَبٌ، ومياههم لا تصلحُ للشُّرب، ويدفع الصّهيونيُّ بالمخدِّراتِ إلى بيئاتهم ويتَّهمُهم بها مع أنه هو حارسُ الحدودِ، ويُصدرُ الصهيونيُّ قانوناً بأنَّ الطبيبَ يحقُّ له الامتناعُ عن معالجةِ المريضِ لأسبابٍ عقائدية دينية، مدركينَ بأنَّ الطَّبيبَ الفلسطينيَّ يمنعُه إسلامُهُ من أن يتركَ مريضاً للموتِ، وأنَّ الطَّبيبَ الصّهيونيَّ تحثُّه صهيونيَّتهُ على الامتناعِ عن تقديمِ العلاجِ. و هدمُ البيوتِ بحجَّةِ عدمِ التَّرخيصِ واحدةٌ من أساليبِ التضييقِ الممنهَجِ عليهم، وكم يشبهُ المستحيلَ أن يحصلَ الفلسطينيُّ على ترخيصٍ، لينتهي به الأمر أن يهدمَ بيتَه بيدِه، لأنَّ تكلفةَ هدمِ البيتِ مرتفعةٌ جداً.

أمّا غزة، فحصارُها دامَ لأكثرَ من سبعةِ عشر عاماً، نشأ فيها الصبيانُ لا يعرفون شكلَ الجبلِ والنهرِ والغابةِ والمحيطِ، فهي أحلامٌ يرونَها على الشاشاتِ فقط. سبعة عشر عاماً وبعضُهم ربَّما يظنُّ أنَّ الكهرباءَ موردٌ محدودٌ للطاقةِ، فلم يمرَّ يومٌ خلالَ هذه السنواتِ كانت فيه الكهرباءُ متاحةً على مدارِ اليومِ. سبعة عشر عاماً والصهيونيُّ يقرِّرُ لغزةَ حدودَها من هذا العالمِ الواسعِ، ويمطرُ عليها قنابلَه كلَّ حينٍ مستهدفاً أسَراً كاملةً فتمحى من السجلِّ المدنيِّ.

إنِّ تقييدَ الحركةِ الحرّةِ في فلسطينَ، وأسْرِ الكثيرِ منهم حتى لا يستطيعون الوصولَ إلى أقصى مدىً من التمكُّنٍ والنموِّ، ومحوِ أسماءٍ من السجلِّ المدنيِّ حتى ينقطعَ فيهم التعاقبُ والاستمرارُ، هي محاولاتٌ لإخراجِ الفلسطينيينَ من الأرض أو دفنِهم فيها حتى تنقطعَ لديهم كلُّ أسبابِ الوجودِ، وبذلك تسقطُ كلُّ معاني الحياةِ لدى الإنسانِ الفلسطينيِّ، ويظلُّ هذا الكيانُ الصهيونيُّ متوسِّعاً في توغُّلِه في جسدِ فلسطينَ وحتى بلادِ الشامِ. هذا الجسدُ الملقى على الأرضِ هامداً كالميت، المقطّعُ الذي سُلِبَ منه مداه وحركتَه، لم يكن السابعُ من أكتوبر إلا إيماءةً منه بأنه لا يزالُ حياً وبأنَّ هناكَ نبضٌ لا يزال يسري في هذا الجسدِ، إيماءةٌ بأنَّه يريدُ الحياةَ، وبأنَّه يريد أن يتحرَّكَ حرَّاً رغمَ الضيقِ والحصارِ والهدمِ والجراحِ، يريدُ أن يستمرَّ إلى أقصى مدىً، يريدُ أن يحقِّقَ لذاتِه اندفاعاً مستمرَّاً في الحياةِ، يريدُ أن يحقِّقَ وجودَه ، ليس أقلَّ من أكثر القوى وجوداً، ولكن دون طغيان.

فلن أتركَ لكم الإجابةَ عن مَنْ يملكُ ثقافةَ الحياةِ أو ثقافةَ الموتِ، فالجوابُ هو السابعُ من أكتوبر.

آدم السرطاوي_ 🇨🇦 كندا