إننا عندما نستمع إلى شخص متسائلٍ عن الغاية من الخلق وعن سبب هذا الكون وموقع الإنسان فيه، نصِفُ هذا النوع من التفكير أنه تفكير وجودي يتمحور حول الوجود، ويتميّز المتحدث في هذه المسائل بخاصية يملكها في أعماقه تختلف عن الآخرين، وهي خاصية الشك، الشك الإنساني الذي يزيل عن عقل الإنسان زخم الكذب والروايات المغلوطة والمعتادة والمقبولة لدى العامة من الناس، لذا قال ديكارت “أنا أفكر إذاً أنا موجود”، وليس التفكير مجردَ تمرير للأفكار المعتادة على العقل، وإنما هو إعادة التفكير في جذورها والبحث عن دقتها وصحتها، وقد يكون الدافع وراء التفكير الوجودي هو ذاته الدافع وراء أيِّ تغيير، إما الروتين الرتيب، أو استشعار الفرد بحريته وبالقيود التي عليه، أو الخوف والقلق الذي يجبر الإنسان على التفكير بأن هناكَ خللاً ما في الأطروحة المعتادة التي يتداولها الناس إذ إنها تسبب قلقاً وخوفاً، فلا بد من أنها أطروحةٌ خاطئة! فالتساؤل عن الوجود لا يمكن له أن يكون إلا بتحرك الشك وعدم اليقين.


تكاثرت التصريحات الصادرة من قادة الكيان الصهيوني والتي تحمل في ثناياها كلمة “الوجود” معبّرة عن أن الكيان يمرُّ بأزمة وجودية أو دوّامة وجودية كما صرّح أحدهم. إن التساؤل عن الأزمة الوجودية بين قادة الكيان الصهيوني ليس بالأمر الجديد ولكنه ازداد عن أي مرحلةٍ سابقة في تاريخ الكيان المؤقت، فبالعودة إلى الوراء نجد أن أول “رئيس وزراء صهيوني” ، بن غوريون، كان يتحدث عن عوامل البقاء بالقوة الديموغرافية والعسكرية، ولا يعكس هذا الطرح إلا قلقاً وجودياً مبنياً على تدافع الأحاسيس المتناقضة بين البقاء والزوال، وليس التوسع الصهيوني بالتطبيع إلا وجهاً من وجوه هذا القلق بدءاً بشمعون بيريز إلى نتنياهو الخائف من إيران.


كما وتجسِّد الحرب على سوريا والترويج للخطر الإيراني أنه يحيق بالجميع قبل الكيان! ، لا يعبر إلا عن عمق هذا الشعور لدى قادة الكيان سواء في الأرض المحتلة أو في الغرب. وإننا إذا ما تأملنا المشهد أكثر، نلاحظ أن القلق الصهيوني الوجودي لا يقتصر على وجوده في المكان، وإنما تحولت الهوية الفلسطينية شبحاً يطارده في الأحلام مما أدى به إلى انتحالها ونسبتها له، كمحاولة سرقة الكوفية والحمص والمفتول و غيرها من رموز الحياة اليومية للفلسطيني، وبإخفاء اسم فلسطين من  الخريطة، فلماذا تحول الفلسطيني كابوساً للصهيوني وعن ماذا يعبر هذا الكابوس في حقيقته؟ ألا يعبر ذلك عن قلق مستمر ومحاولةٍ  مستمرةٍ لإخفاء الوجود الفلسطيني الذي يناقض الوجود ال”إسرائيلي”؟ ألا يعبر ذلك عن قلق وجودي حتى على المستوى الاجتماعي، لا على مستوى القادة فقط؟


لربما كان شعور الألم المتعاظم من الظلم الأوروبي دافعاً للوحشية لتلك الأجيال السابقة التي جاءت واحتلت الأرض باحثةً عن ملاذٍ أخير، ولكن اليوم، بعد أن أصبح كل صهيوني يشعر بأن الكوكب بيته الصغير أينما ذهب، مسالماً كان أم مجرماً، فإن شكوكه المستمرة تحولت إلى منطقة المعرفة بعدما بدأت تتعاظم حتى وصلت إلى الأفراد، وهو ما شهدناه بين الكثير منهم ممن تحولوا وتركوا الفكرة الصهيونية وصاروا يتحدثون عن الحق الفلسطيني.


إن حديث هؤلاء الذين عرفوا الطريق عن الهوية الفلسطينية سيؤول إلى بحثهم عن ذواتهم وهويتهم الأوروبية أو الأخرى الأصيلة بالضرورة، وهو ما ستؤول إليه الأمور بعد أن يشكل هؤلاء تجمعاً يصل إلى مرحلة التأثير، مما سينقل المجتمع الصهيوني جلّه من مرحلة الشك إلى مرحلة المعرفة، حيث الجواب متوافرٌ وموجود ولا يحتاج إلا إلى الإقدام والتحرك بترك فلسطين عودةً إلى المأوى الحقيقي، ومواجهة معاداة السامية في مهدها الأوروبي من حيث جاءت.


هل شهد التاريخ الأوروبي اعتذاراً وتصحيحاً للمسار مع اليهود قبل قيام الكيان؟! سؤالٌ مهم، لأن أي اعتذار حدث بعد قيام الكيان لا قيمة له، ويؤخذ على محمل سلبي متممٍ لجريمة الخداع الكبرى لليهود بالأرض الموعودة على أرض فلسطين. فاليوم، وجود الصهيونية على أرض فلسطين، من البُعد الوجودي، هو تجسيد للرفض الأروبي الغربي لليهود. فتأسيس الكيان على أرض فلسطين ليس إلا صورة من صور الإصرار الأوروبي على التخلص من هؤلاء الأوروبيين بدافع التمييز القائم على أساس الدين الذي تشهد له سنواتٍ طويلة من التعذيب والحصار والسجن والملاحقة والقتل، حتى تم التخلص منهم بإرسالهم إلى فلسطين مع قادةٍ محمّلينَ بفايروس الصهيونية.

آدم السرطاوي – كندا