الجولان أرض سورية محتلة : ماذا ستبيعون غدا” !!! – بقلم: د. بسّام أبو عبد الله
=================================
هذا المقال ليس معاندة ، ولا شماتة في زمن الانكسار. هذا المقال موقف وطني لا بد من تسجيله في لحظة تشبه الغيبوبة العامة ، حيث يسود الصمت، ويُقدَّم الخوف بوصفه حكمة، والاستسلام بوصفه واقعية ، ويُنظر إلى السؤال كفعل إزعاج وإلى الاعتراض كترف لا يليق بمرحلة “الضعف”.
نعم، سورية اليوم في أضعف حالاتها، وميزان القوى مختل، والبلاد منهكة، والناس متعبة. لكن السؤال الذي لا يجوز دفنه هو: هل يعني الضعف بيع الأرض؟ وهل يعني العجز إسقاط الحق؟ وهل يصبح الوطن عبئا” حين نعجز عن حمايته؟
هذا سؤال موجّه للجميع ، بلا مزايدة ، لكنه سؤال لا يملك أحد حق منعه.
أولا” – حين أعلن دونالد ترامب عام 2019 ، في ولايته الرئاسية الأولى، اعترافه بضم الجولان إلى إسرائيل ، تصرّف فعلا” وكأن الأرض ملكية خاصة أمريكية تُهدى لمن يشاء. كان إعلانا” أحاديا” مدانا” قانونيا”، ومرفوضا” دوليا” . يومها ، ورغم كل ما تقولونه عن النظام السابق، كان الرد السوري واضحا” : رفض رسمي ، احتجاج سياسي ، تمسّك بالقرارات الدولية، وتأكيد لا لبس فيه أن الجولان أرض محتلة لا تسقط بالتصريحات.
اليوم، يعود ترامب بعد سنوات ليقول علنا” إنه “أهدى الجولان لإسرائيل”، متفاخرا” بأنه خدم إسرائيل أكثر من أي رئيس أمريكي آخر . الجديد والخطير ليس كلام ترامب، بل صمت سلطة الأمر الواقع لا بيان ، لا اعتراض ، ولا حتى تسجيل موقف شكلي. وكأن الجولان لم يعد قضية وطنية، أو كأن الصمت أصبح سياسة.
وهنا، لا يعود الصمت حيادا”، بل موقفا” سياسيا” يقول بوضوح إن التنازل قد تم ، أو على الأقل إن الطريق إليه قد فُتح ، وبقي الهاء السوريين بمذاهبهم وجوعهم ، وتمرير الخطوة الأخيرة ، كما تعهدنا لكم .
ثانيا” – فعلا” لم تتأخر وزارة خارجية سلطة الأمر الواقع في تمريرخريطة لسورية من دون الجولان ، مبررة ذلك تحت عنوان “الواقعية” و”عدم خداع الرأي العام”، دون أن تبين للسوريين متى تم ذلك ، ولماذا فعلوا ذلك ؟؟؟
في القانون الدولي، الخرائط الرسمية ليست تفاصيل تقنية، بل إعلانات سيادية. هي تعبير عن تصور السلطة للحدود، وتُستخدم كقرائن سياسية وقانونية في النزاعات. نشر خريطة حُذف منها الجولان هو إقرار بأنه لم يعد أرضا” سورية محتلة. والسؤال الذي لا مهرب منه : من فوّضكم ؟ ومن منحكم حق الانتقال من توصيف الجولان كأرض محتلة إلى التعامل معه كأرض خارج الوطن؟
ثالثا” – الجولان ليس ملكية خاصة لأي سلطة كانت . الجولان حق سيادي جماعي للشعب السوري، محكوم بنصوص قانونية دولية صريحة لا تقبل التأويل ولا السقوط بالتقادم ، وفي مقدمتها :
قرار مجلس الأمن 242 (1967): الذي أكد مبدأ عدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة.
قرار مجلس الأمن 338 (1973): الذي أعاد تثبيت هذا المبدأ وربط أي تسوية بالانسحاب من الأراضي المحتلة.
قرار مجلس الأمن 497 (1981): الذي رفض بشكل قاطع قرار إسرائيل بضم الجولان واعتبره باطلا” قانونيا” كما اعتبر جميع الإجراءات الإسرائيلية لاغية ولا أثر لها.
إضافة إلى قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة المتعاقبة التي أكدت باستمرار أن الجولان أرض سورية محتلة، ورفضت أي تغيير في وضعه القانوني.
هذه ليست مواقف سياسية، بل قانون دولي نافذ. وهي لا تمنح أحدا” حق التنازل، بل تنزع أصلا” عن أي سلطة غير شرعية حق التصرف، وهي حصيلة جهد دبلوماسي وقانوني لمئات الكوادر الوطنية السورية عبر عقود من الزمن.
رابعا” – الأدهى من ذلك أن سلطة الأمر الواقع خالفت الاعلان الدستوري الذي أصدرته في ١٣ آذار – ٢٠٢٥ والذي ينص في مادته الأولى : ( الجمهورية العربية السورية دولة مستقلة ذات سيادة كاملة ، وهي وحدة جغرافية و سياسية لا تتجزأ ، ولا يجوز التخلي عن أي جزء منها ) أي أن هذه السلطة و بموجب إعلانها الدستوري لا يحق لها وليست مفوضة بالتنازل عن أي أرض سورية . هنا تُطرح مسألة “الشرعية الثورية”، التي يلوح بها جمهور السلطة صراحة أو ضمنا” ، وفي هذا الموضع تحديدا ” يجب التوضيح بدقة أنه حتى في الفقه الدستوري المقارن، تُعرَّف الشرعية الثورية – إن وُجدت – بأنها شرعية انتقالية مؤقتة، وظيفتها إدارة الانتقال ومنع الفراغ، لا التصرف بالحقوق السيادية الدائمة. فالشرعية الثورية لا تمنح الحق في:
١- تعديل الحدود الدولية.
٢- التنازل عن أراضٍ محتلة.
٣- إسقاط التزامات قانونية دولية ذات طبيعة دائمة.
أي أن السيادة ليست غنيمة ثورية، ولا مكافأة سياسية، ولا أداة تفاوض باسم “المرحلة”. هي وديعة تاريخية باسم الشعب لا تُمسّ إلا بتفويض شعبي صريح، ودستور نافذ، واستفتاء عام. وكل ما عدا ذلك ادّعاء للسلطة لا أكثر.
خامسا” – يروّج بعض أنصار السلطة لتشبيه خطير: “نبيع الجولان كما يبيع المرء غرفة في بيته لينقذ البيت كله”. هذا التشبيه فاسد من جذوره. الجولان ليس غرفة، وسورية ليست ملكا” خاصا”، والسيادة ليست قابلة للتجزئة. من يفتح باب التنازل مرة ، لا يملك إمكانية إغلاقه لاحقا” . هذا منطق يحوّل الوطن إلى ملكية بيد السلطة، ويحوّل الشعب إلى متفرج صامت ، وكأن السوريين قطيع يُساق باسم المصلحة العليا.
سادسا” – يقول كثيرون: “يا أخي: الزمن زمن أمريكا، وترامب سيد العالم ، ماذا سيفعل الشرع أمام ذلك؟”
هذا السؤال يبدو واقعيا” ، لكنه يحمل افتراضا” خطيرا”: أن القوة تُسقط الحق، وأن الضعيف لا يملك إلا القبول.
لكن تاريخ سورية بعد الاستقلال يردّ على هذه الحجة بوضوح . سورية لم تكن دولة عظمى، بل دولة فتية، ضعيفة،و محاصرة ، ومع ذلك ، لم تبنِ شرعيتها على التنازل، بل على التمسك بالسيادة. الدول الضعيفة لا تحمي نفسها بالقوة، بل بالقانون والذاكرة والرفض . الضعف لم يكن يوما” مبررا” لبيع الأرض، بل سببا” إضافيا” للتمسك بها .
سابعا” – يُقال أيضا” إن رفع عقوبات قيصر، والتنمية، والاستقرار، لن تتحقق بدون هذا التنازل. لكن لا يوجد أي نص قانوني أو إعلان رسمي يربط رفع العقوبات بالتنازل عن الجولان . ما يجري هو تسويق داخلي لرواية تقول: “رفعنا عنكم العقوبات، فلا تسألوا عن الثمن”.
التنمية التي تُبنى على الغموض، وعلى الصمت، وعلى محو الأرض من الخرائط، ليست تنمية، بل تبعية و تأجيل لانفجار قادم . والاستقرار الذي يُشترى بالتنازل السيادي استقرار هشّ ، مشروط ، وقابل للابتزاز الدائم.
ثامنا” – وهنا نصل إلى نقطة التصحيح الجوهرية التي تكشف زيف خطاب “التنازل مقابل الأمان”. أين إسرائيل الآن؟
إسرائيل، رغم كل الإشارات، ورغم كل التطمينات، ورغم كل ما قُدّم لها أو أُوحي به سياسيا” لم تكتفِ بالجولان أصلا” بل دخلت فعليا” إلى أراضٍ سورية خارج نطاق الجولان المحتل، تمدّدت ميدانيا” ، أقامت نقاط تفتيش ، نفّذت اعتقالات، وأعلنت صراحة أنها لن تنسحب من قمة جبل الشيخ . أي أن التنازل لم يؤدِّ إلى الاستقرار، بل إلى توسيع الاحتلال.
هذا السلوك يفضح الحقيقة العارية : التنازل الأول لا يُغلق الصراع، بل يفتحه على سلسلة لا تنتهي من المطالب. ما قُدّم على أنه “حلّ” قُرئ إسرائيليا” بوصفه سابقة ، وبوصفه إقرارا” بالهزيمة . فإذا كان الجولان قد تم التنازل عنه، فلماذا لا تكون هناك مناطق أخرى أيضا” ؟ وإذا كان الصمت ممكنا” ، فلماذا لا يصبح التمدد سياسة دائمة ؟ ونتنياهو قالها علنا” لقد حصلنا على ما لم نكن نحلم به حتى في الخيال !!!
التاريخ يعلمنا : ما يُعطى بلا ثمن يُنتزع بلا حدود، وما لا يُواجَه يُثبَّت كأمر واقع . وهنا يصبح التنازل ليس نهاية الخطر، بل بدايته .
تاسعا” – سأطرح سؤالا افتراضيا” : ماذا يمكن فعله لو كنت مكان أحمد الشرع ( ما عاذ الله ) ؟؟؟
أولا “- سأخبر العالم أنني رئيس سلطة مؤقتة ، ولست مفوضا” من شعبي بهذا الأمر، ولن أخالف الاعلان الدستوري الذي كتبته بيدي ، ولن أخون أمانة الحفاظ على وحدة أراضي سورية ، وعدم جواز التخلي عن أي جزء منها ، و ثانيا” كنتُ سأجمّد أي مسار تفاوضي حتى تأتي حكومة منتخبة شعبيا” ، ويكون في البلد برلمان يمثل الشعب ، وأحوّل الملف إلى الساحة القانونية الدولية متسلحا” بترسانة من القرارات الدولية ، وثالثا”- داخليا” سأخاطب السوريين بصدق بالقول : نعم نحن ضعفاء، لكننا لن نبيع حقا” سياديا” باسم الخوف . فالشرعية لا تُستورد من الخارج ، ولا تُمنح مقابل تنازل ، بل تُبنى على حماية الحق العام ولو في أقسى الظروف.
عاشرا” – وأخيرا” – هذا المقال لا يوزّع صكوك وطنية ، ولا يتهم أحدا” . لكنه يرفض أن يُطلب من السوريين أن يصمتوا، وأن يُقال لهم إن الضعف يبرر بيع الأرض.
نعم، سورية ضعيفة، لكن الضعف لا يُسقط الحق، كما أن القوة لا تمنح الشرعية، وبالصمت لن يزدهر الوطن.
ترامب يتصرف وكأن الجولان ملكية خاصة له ، وكأننا أمام بلفور جديد !!!
وسلطة الأمر الواقع في دمشق تمرر الأمر خلسة عبر خارطة جديدة بكل صفاقة ووقاحة ، لكن الأرض لا تُهدى، ولا تُمحى من الخرائط ، ولا تُسقط بالخوف ، وقد لخص المهاتما غاندي الأمر بالقول : ( قد نخسر القوة ، لكننا لانخسر الحق إلا إذا تخلينا عنه.) .
والسؤال الذي يبقى، برسم الجميع:
إذا بعنا الأرض اليوم بحجة العجز… فماذا سنبيع غدا” ؟
