ترسم العلاقات الأميركية الروسية الآخذة بالتقدم الحذر رغم المواجهة الدائرة بين القطبين العسكريين الأهم في العالم، اللذين ورثا ترسانة ما بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، حيث يبدو أن الحرب الأوكرانية والتفوق الروسي الواضح فيها من جهة، ونجاح روسيا لتجاوز الاختناق المالي الذي صمّمت العقوبات عليها لإدخالها فيه، منصة تفاوض أوسع مدى بحجم اتساع مدى فكرة الحرب نفسها، التي أرادت إعادة صياغة المسرح الأوراسي لصالح تشارك غربي أميركي أوروبي في تقاسم التركة الروسية المفترضة كرجل مريض، حتى يبدو فشل الحرب والعقوبات، وقد فتح السياق على فرضيّة نشوء كتلة روسية صينية إيرانية عسكرية وسياسية واقتصادية تخوض معركة إسقاط أميركا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، ما لم تسارع أميركا إلى خطوة إلى الوراء للتفاوض مع روسيا على صفقة استراتيجيّة.
لم تنجح المحاولات الأميركية بوضع العلاقات الروسية مع الصين وإيران في كفة موازية للعلاقة الأميركية الروسية المفترضة، لمقايضة كفة بكفة مقابلة، فقد اختبرت روسيا العالم بدون صين قوية وإيران صامدة، ولم تجد إلا الحصار الغربيّ بقيادة أميركية، لكن التمسك بالعلاقة مع الصين وإيران لا يعني بالضرورة تشكيل حلف هجومي سياسي واقتصادي وعسكري لمنازلة أميركا، تعرف روسيا أن ما يرتبه من مواجهة مكلف عليها وعلى حلفائها، الذين لا يمانعون بحلول تفاوضية، يبدو واضحاً أن روسيا تتمهل في إتمام صفقتها الخاصة لحين نضوج مسار التفاوض مع حليفيها الصيني والإيراني، خصوصاً أنه وبخلاف ما يعتقد كثيرون تعرف روسيا أن نضج أميركا لمفهوم الصفقة تمّ تحت تأثير نتائج حرب السنتين التي خاضتها في مواجهة إيران وحلفائها في المنطقة بالتعاون مع “إسرائيل”، والتي تركت أميركا بالرغم من مزاعم النصر الذي تتحدّث عنه، أنها حرب فشلت في إخراج إيران وحلفائها من معادلة المنطقة، لكنها رسمت سياقاً مختلفاً للتفاوض معها ومع حلفائها، بما يوفر شروط الصفقة مع روسيا، التي يبدو أنّها تنتظر اكتمال التفاوض الصيني الأميركي الذي يدور على صفيح بحر الكاريبي الساخن، سواء حول تقاسم الأسواق أو حجم المساهمة الصينية في سوق السندات الأميركية وهي مساهمة أكثر من وجودية بالنسبة لأميركا تدرك الصين أهميّتها وتتصرّف على هذا الأساس على طاولة التفاوض.
يمكن التوسّع في مجالات التفاوض والتجاذب الأميركي الصيني والأميركي الإيراني لاحقاً، لكن الواضح أن المواجهات المتعدّدة التي دارت على جبهة هذه العلاقات أنضجت واشنطن لفكرة الحلّ التفاوضي ونضجت أميركا والصين وإيران لسقوف متقاربة في هذا الحل، ولم تعد “إسرائيل” تملك ما يؤهلها لامتلاك حق الفيتو على هذا التفاوض، ولذلك نشهد تسارعاً في ميدان التفاوض الروسي الأميركي الذي يتخذ من أوكرانيا عنواناً، لكن جوهرها يبدو أوسع بكثير ومحوره مستقبل أوروبا، بمثل ما كان جوهر الصفقة الأميركية الأوروبية قبيل الحرب الأوكرانية مستقبل روسيا.
مستقبل أوروبا التي لا تستطيع تحمّل تبعات التفاهم الروسي الأميركي على إنهاء الحرب بصيغة ترجح الحسابات والمصالح الروسية، وتستطيع معاندة ما ينتج عن هذا التفاهم ومواصلة الحرب دون أميركا، سوف يفتح الباب على سؤال كبير، هو ما هي حاجة أميركا للتمسك بأوروبا الموحّدة ما دامت الوظيفة التي لأجلها تبنت أميركا فكرة الاتحاد الأوروبي التي رفضتها دائماً والوظيفة انتهت إلى الفشل وهي هزيمة روسيا، أما بالنسبة لروسيا فإن الواضح أنها لا تحتاج إلى أوروبا موحّدة، وربما يكون أفضل بنظر كل من الأميركي والروسي تفكيك الاتحاد الأوروبي لإعادة تقاسم المسرح الأوروبي كما كان الحال خلال ما بعد الحرب العالمية الثانية ولو تمّ تعديل الخرائط بموجب الوقائع والمتغيرات، لكن لأميركا مصلحة حيوية مزدوجة بالتخلّص من الاتحاد الأوروبي.
أميركا تحتاج إلى إنهاء الاتحاد الأوروبيّ لسببين، الأول التعامل بالمفرق مع سوق النفط والغاز الذي تتطلع إليه في غرب وجنوب أوروبا، مقابل عودة روسيا إلى الشمال والشرق، وفي هذا السياق تحتاج أميركا لإنعاش صناعتها واقتصادها إلى استقطاب شبيه بالذي جرى بعد الحرب العالمية الثانية للمصانع الأوروبية الضخمة التي تبحث عن القرب من مصادر طاقة مضمونة ورخيصة، وهذا لم يعُد متاحاً في الدول الأوروبيّة، وإلى جانب العامل الاقتصاديّ المتمثل بسوق النفط والغاز من جهة واستقطاب الصناعة الأوروبية من جهة موازية، هناك عامل ماليّ نقديّ يتمثل بالحاجة لتوسيع نطاق التداول بالدولار، وهو يسجل تراجعاً تأمل واشنطن بوقفه عند حدّه عبر التفاهمات مع روسيا والصين، التي توحي بها وثيقة الأمن القومي الأميركي الجديدة، بأمل أن تكون المكاسب الروسية والصينية من هذه التفاهمات كافية لتجميد إصدار عملة موازية للدولار، يمكنها حجز ربع السوق العالمية، وبالتوازي مع التجميد المأمول لتراجع الدولار تحتاج أميركا إلى توسيع نطاقه خارج إطار الاقتصادات الروسية والصينية
