انكفاء الولايات المتحدة الاستراتيجي
حسن علاء الدين
لم تتوقف المفاجآت في السياسات الأمريكية الخارجية والداخلية منذ تولي دونالد ترامب منصب الرئاسة مطلع العام الحالي؛ وكان آخرها استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية التي صدرت مؤخرا، والتي كانت ذات وقع شديد على حلفاء الولايات المتحدة قبل خصومها. ويبدو أن ارتدادات هذه الوثيقة وما تنطوي عليه من تحوّل في نظرة الولايات المتحدة إلى العالم بأسره لن تكون مرهونة بما تبقّى من ولاية الرئيس الحالي، بل ستساهم في تغيير الواقع السياسي العالمي على المدى البعيد.
تُعدّ هذه الوثيقة حجر أساس في فهم سياسة الولايات المتحدة إذ إنها تعبّر بشكل واضح عن توجّهات الولايات المتحدة وما تصبو إليه وترغب في تحقيقه في كل بقعة من بقاع الأرض بما يحقق المصلحة العليا للأمريكيين بحسب واضعي هذه الاستراتيجية. وعليه فإن كل عبارة أو تصريح أو تلميح يكون ذا دلالة ولا يمكن تناوله كسقطة أو هفوة تصدر عن مسؤول في مؤتمر صحفي أو بيان مكتوب.
يمكن للمتأمّل في مضامين هذه الوثيقة والقارئ بين سطورها أن يختزل الاستراتيجية كلها بعبارة واحدة: أمريكا تنكفئ نحو النصف الغربي من الكرة الأرضية وتصبّ جلّ اهتمامها عليه بعد عقود من السعي إلى الهيمنة على العالم كله. قد تبدو هذه العبارة مفاجئة للوهلة الأولى، ولكن معظم مضمون الوثيقة يصبّ في هذا الاتجاه، ومنه على سبيل المثال لا الحصر ما جاء في مقدّمة الوثيقة: “بعد نهاية الحرب الباردة، أقنع قادة السياسة الخارجية في الولايات المتحدة أنفسهم بأن السيطرة الأمريكية الدائمة على العالم بأكمله تصبّ في مصلحة البلاد. لكن شؤون الدول الأخرى لا تعنينا إلا إذا كانت أنشطتها تهدد مصالحنا مباشرة”.
وقد جرت العادة أن تخصّ الوثيقة كل منطقة من العالم بقسم تذكر فيه سياسات الولايات المتحدة في هذه المنطقة وما تريد تحقيقه فيها؛ وفيما يلي نذكر المناطق الأكثر أهمية وأبعاد ما ذُكر في الوثيقة حولها.
1) منطقة المحيطين الهندي والهادئ: تسليم بالتفوّق بالصيني
أقرّت الإدارة الأمريكية الحالية بفشل سياسات الإدارات السابقة الديمقراطية والجمهورية على حد سواء في مواجهة تعاظم الصين اقتصاديا وعسكريا وكبح جماحها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، المنطقة التي تُنتج بالفعل قرابة نصف الناتج المحلي الإجمالي العالمي عند القياس وفقًا لتعادل القوة الشرائية (PPP). فبعد أن كانت هذه المنطقة تُعدّ المكان الأهم للعالم ولحياة الأمريكيين اليومية بحسب ما جاء في استراتيجية الأمن القومي السابقة في ولاية الرئيس السابق جو بايدن، باتت اليوم منطقة تطمح الولايات المتحدة إلى التنافس فيها بنجاح وإلى المحافظة على توازن قوى يضمن أمن المنطقة وحرية الحركة فيها فقط.
2) أوروبا: حليف انتهت صلاحيته
كان لافتا مستوى التقريع الذي نالته أوروبا في استراتيجية الأمن القومي؛ فبعد أن كانت أكثر الحلفاء تلقّيا للثناء في الاستراتيجيات السابقة، أصبحت اليوم عرضة للانتقادات اللاذعة بل المهينة أحيانا في واحدة من أهم الوثائق الرسمية الأمريكية.
انتقدت الوثيقة ما سمّته الرقابة على حرية التعبير وقمع المعارضة السياسية وفقدان الأولويات الوطنية في القارة الأوروبية. هذه الاتهامات كانت تُكال عادة إلى أعداء الولايات المتحدة كالصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية. ولكن هذه الوثيقة لم تتعرض لموضوع الحريات والقمع في هذه الدول كالعادة أو في الدول الحليفة المحكومة عبر أنظمة غير ديمقراطية، بل تناولت هذا الموضوع في معرض الحديث عن أوروبا فقط، حيث اتهمت المسؤولين الأوروبيين بالاستناد إلى حكومات أقلية غير مستقرة تدوس على المبادئ الأساسية للديمقراطية لقمع المعارضة.
كما حذّرت الوثيقة من احتمال اندثار أوروبا حضاريا وشكّكت في امتلاك بعض الدول الأوروبية مستقبلا اقتصادات وجيوشًا قوية بما يكفي لتبقى حلفاء موثوقين. وهذا قد يشير إلى توجه الإدارة الأمريكية إلى تغيير الواقع السياسي في القارة العجوز التي باتت تشكل عبئا على الولايات المتحدة. ففي فحوى الكلام عن أوروبا دعوة إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي الذي بات عاجزا عن تحقيق الهدف الرئيس منه وهو حصار روسيا والوقوف سدا في وجهها.
قد يكون الحل الأمثل في نظر إدارة الرئيس ترامب إعادة التموضع في أوروبا والتسليم بالتفوق الروسي فيها، فيصبح الاتحاد الأوروبي غنيمة الحرب الأوكرانية التي ستتقاسمها روسيا مع الولايات المتحدة بعد تصريح الأخيرة بأن الحرب في أوكرانيا أدت إلى نتيجة مغايرة لما كان متوقعا.
3) الشرق الأوسط: هرب من حروب لا تنتهي
لقد صّرحت الوثيقة بضرورة تجنّب الانخراط في حروب المنطقة التي استمرت لعقود دون جدوى، وقالت بتراجع اهتمام الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط بحجة تراجع أهميته على مستوى موارد الطاقة التي باتت متنوعة المصادر بشكل أكبر من جهة، وعلى مستوى التنافس بين القوى العظمى الذي تحوّل إلى تزاحم بين القوى الكبرى من جهة أخرى.
هذا لا يعني على الإطلاق تخلي الولايات المتحدة عن “إسر/ئيل” التي صرّحت الوثيقة بضرورة إبقائها آمنة، ولكن في ذلك إشارة إلى عدم رغبة الولايات المتحدة بل عدم قدرتها على خوض حروب “إسر/ئيل” بالنيابة عنها، تلك الحروب التي لم تعد مرتبطة بأمن “إسر/ئيل” المباشر أو بأصل وجودها، بل باتت حروبا تهدف إلى الهيمنة المطلقة والتسيّد على المنطقة ودولها. وهذا ما أضحت الولايات المتحدة غير قادرة على دفع تكاليفه الباهظة في الرأي العام الأمريكي على وجه الخصوص الذي شهد تغيرا جذريا بسبب أحداث العامين الماضيين.
4) نصف الكرة الأرضية الغربي: عودة إلى عقيدة مونرو
تقوم عقيدة مونرو على ضرورة كون النصف الغربي للكرة الأرضية منطقة نفوذ حصري للولايات المتحدة، وهذا ما يسعى دونالد ترامب إلى إنفاذه اليوم بعد سنوات من الإهمال. فالولايات المتحدة تنظر إلى دول القارتين الأمريكيتين كحدائق خلفية لها وكمناطق مرتبطة بأمنها القومي مباشرة.
بينما كانت الولايات المتحدة منشغلة في محاولة الهيمنة على العالم بأسره وتطويق ومحاصرة الدول التي تنافسها في بعض المناطق كروسيا والصين وإيران، تمكّنت هذه الدول من التسلل إلى عمق منطقة النفوذ الحيوي الأمريكي محققة اختراقات في العديد من دول العالم الغربي. واستطاعت إنشاء شراكات سياسية وتجارية واقتصادية مع هذه الدول ما شكّل تهديدا مباشرا للنفوذ الأمريكي المطلق في المنطقة، وهذا ما اعترفت به الوثيقة التي ركّزت اهتمامها على هذه المنطقة دون سواها.
نستطيع بناء على ما تقدّم فهم مقترحات ترامب غير المألوفة وغير الديبلوماسية التي صرّح بها مرارا كمطالبته بضمّ كندا وغرينلاند والسيطرة على قناة بنما. ومنه أيضا يمكن فهم سبب استشراسه في التعامل مع فنزويلا التي تمتلك أكبر احتياطي من النفط في العالم. فهو يحاول إطباق السيطرة على الأمريكيتين وما تحتويهما من مصادر طاقة وممرات تجارية وموارد طبيعية للتعويض عن تراجعه في باقي المناطق، فيبدو بذلك بمظهر القوي المسيطر أمام شعبه لا بمظهر المنكفئ المتراجع كما هو واقعا.
لا ينتطح عنزان في الإقرار بقوة الولايات المتحدة وقدراتها العسكرية والسياسية والاقتصادية، ولكن مما لا شك فيه أيضا أنها لم تعد ما كانت عليه إبّان الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، وفي استراتيجية الأمن القومي الصادرة مؤخرا خير دليل على ذلك. فهل بدأ زمن أفول النجم الأمريكي؟ العقد المقبل قد يكون كفيلا في الإجابة عن هذا.
