ملفتٌ جداً مشهدُ علم الفاتيكان وهو يرفرف فوق سماء الضاحية، هذه الضاحية الأبية التي دفع أهلها أثماناً باهظة دفاعاً عن الوطن. وملفتٌ أيضاً أن يخرج سكان هذه المنطقة، التي يصرّ البعض على وصفها ظلماً بأنها “بؤرة”، بينما هي في الحقيقة دُرّة لبنان، وأرضٌ أُريق عليها أطهر الدماء وأقدسها.

خرجت الضاحية بأطفالها وشبابها ونسائها ورجالها لاستقبال البابا لاوون الرابع عشر بكل احترام ومحبة، رغم كل ما تحمله هذه البيئة من تاريخ طويل مع الاستهداف والتضحية، والعض على الجراح ، ما أثبتته دائماً انها ذات أخلاق عالية وكرم في استقبال ضيوفها.

ومع ذلك، يبقى السماع لصوت الحاقدين والمشكّكين أمراً لا مفر منه. فهؤلاء الذين لم يعرفوا حسن النوايا يوماً، لا يرون في أي حدث إلا مساحة للتهجّم والتشكيك. نعم، نحن أمام زيارة تاريخية، ونتمنى أن تحمل الخير للبنان، لكن هذا لا يلغي سلسلة الأسئلة التي تفرض نفسها بقوة ووضوح.

لماذا كانت الوجهة الأولى للبابا تركيا؟ولماذا ظهرت معلومات عن تحفّظ أو محاولة تشكيك من المملكة الأردنية بذريعة الهواجس الأمنية؟ولماذا أُدرجت الضاحية ضمن خط سير الموكب رغم وجود طرق أخرى أقصر بين المطار وقصر بعبدا؟ثم هناك توقيت الزيارة نفسه. لماذا الآن؟

ولماذا كان هناك إصرار لافت من رئيس الجمهورية على تكرار عبارة “نحن جميعاً أبناء إبراهيم”، ولماذا تكررت أكثر من مرة وكأنها رسالة مقصودة؟هل هو تمهيد غير مباشر لتطبيع ما؟وهل استثناء الجنوب من الزيارة محاولة لطمس دوره أو للتخفيف من حضور المقاومة التي لا تزال تواجه الاحتلال؟وهل المصطلحات التي استُخدمت، خصوصاً تلك المتعلقة بالأبراهمية، هي مقدّمة ناعمة لتقبّل اتفاقيات “أبراهام” وكأنها واقع لا بدّ أن يسلّم به العرب؟

هذه أسئلة مشروعة، وحقّ لنا وعلينا أن نطرحها، فالسياسة ليست دائماً ما يُعلن، بل ما يُخفى بين السطور. والزمن سيكشف ما وراء هذه الزيارة وما بعدها.

لكن ما هو ثابت لا يتغير هو أن لا سلام ولا قبول بوجود الاحتلال بينما القصف مستمر، والدمار قائم، والشهداء يُشيَّعون. لن تمرّ “خطة ترامب” ولا أي خطة مشابهة، لا الآن ولا مستقبلاً. لم تُقدَّم هذه الدماء ليُمسح أثرها بتسوية أو ورقة تطبيع.

أما روحياً، فأهلاً وسهلاً بقداسة البابا لاوون الرابع عشر في لبنان، وزيارته بركة نرحّب بها. ونأمل أن نشهد في المستقبل استقبالاً رسمياً ومهيباً لواحد من كبار مراجع الشيعة، مثل الإمام السيد علي الخامنئي أو السيد علي السيستاني، بما يليق بمكانتهم الروحية.

وفي النهاية، تبقى زيارة البابا حدثاً مهماً يحمل دلالات عديدة—بعضها مطمئن وبعضها يدعو للحذر—لكن لبنان سيبقى واقفاً عند مفترق الطرق، حاملاً هويته، مدافعاً عن أرضه، مترقّباً ما سيكشفه الزمن… وما وراء الخبر.

فاتنة علي_لبنان