الصراع على الدولة وليس على السلاح
نقاط على الحروف_ناصر قنديل
قد يرغب البعض بأخذ النقاش بعد العدوان الإسرائيلي الاجرامي على ضاحية بيروت الجنوبية نحو الشق الأمني حول نجاح الاحتلال مجددا باختراق الترتيبات الأمنية للمقاومة، والوصول الى اركان الصف الأول مجددا، ليقول للمقاومة ان تعافيها بمعنى أخذ العبر والدروس من الحرب التي دارت رحاها قبل إعلان وقف إطلاق النار قبل سنة، وتحويلها الى خطط عمل بكفاءة تتيح إحباط قدرة الاحتلال على الاختراق التقني والبشري واستهداف القادة من الصف الأول، لم تنجح بعد، ورغم وجاهة الاستنتاج ومضمون الرسالة التي حملها الاغتيال، سواء عمليا او اعلاميا، الا ان الدخول في هذا النقاش متعذر عمليا بسبب الخصوصية الأمنية حيث تحل التكهنات والفبركات والتخيلات والسيناريوهات البوليسية والحرب الإعلامية مكان التحليل العلمي، و هو أيضا نقاش غير مفيد بل ربما يكون ضارا لكونه يساهم في الترويج للرسالة التي يريدها الاحتلال من جهة، ويقدم مشاركة تطوعية في خدمتها وربما بتزويدها ببعض ما تحتاجه من جهة أخرى، ولو بحسن نية أصحاب النقاش من حيث لا يدرون في أحسن الأحوال.
سياسيا تندرج عملية الاستهداف في سياق تصعيدي يريد الاحتلال من خلاله أخذ النقاش الدائر حول الوضع في لبنان داخليا وخارجيا الى مكان يخدم تصورات الاحتلال وأهدافه، حيث ان القضية هي أولا وأخيرا موقع لبنان الدولة والمجتمع من الترتيبات الاسرائيلية الموافق عليها اميركيا لرسم خرائط دول الجوار لفلسطين، وفق معادلة إسقاط الحدود الدولية لصالح الحدود الامنة، والأمن الإسرائيلي هو ما يحددها، باعتبار ما هو أبعد من جور فلسطين يبقى عهدة أميركية خالصة، خصوصا بعد الغارة الاسرائيلية على الدوحة ووقف إطلاق النار في غزة، وهذه المعركة في جوار فلسطين ومنه لبنان، لا يغير من جوهرها أن يبدو ظاهر عنوانها سلاح المقاومة ومصيره، والسعي الاميركي الاسرائيلي لتقديم تفسير مشوه مزور و متعمد لاتفاق وقف إطلاق النار، يقول بأن على لبنان تنفيذ كل شيء وكل كلمة وردت في الاتفاق والقرار 1701 ولو كمستند تاريخي مثل القرار 1559، وليس على اسرائيل بالمقابل تنفيذ أي شيء حتى ما ورد بنص صريح باعتباره التزاما واجب التنفيذ، وصولا للقول انه بعد ان يقوم لبنان بكل ما تعتقد واشنطن وتل أبيب إنها واجبات لبنانية، تنظر اسرائيل برعاية أميركية على ما يمكن فعله، من خلال مفاوضات سياسية تسعى الى التوصل الى اتفاق سلام وتطبيع العلاقات.
يسقط لبنان بالضربة القاضية امام الاطماع الاسرائيلية التي لا حدود لها عندما تستجيب الدولة اللبنانية للضغوط الأميركية الاسرائيلية التي تلقى تشجيعا عربيا، ويقبل أن نزع سلاح المقاومة يتقدم كأولوية على وقف الاعتداءات الإسرائيلية والانسحاب الاسرائيلي، او انه اولوية منفصلة يجب ان تتقدم بمعزل عن تقدم مسار وقف الاعتداءات والانسحاب، بعكس الربط العضوي بين المسارين الذي أقامه القرار 1701 وكرسه اتفاق وقف إطلاق النار، لأن هذا السقوط بداية مسار طويل ينتهي بالتسيم بالتخلي عن الأرض والمياه والأمن والاجواء ليس إلا، وهو المسار السوري بعينه، الذي ينظر لواشنطن وسيطا مع اسرائيل دون ان يطلب تراجع واشنطن عن مباركة ضم الجولان لاسرائيل، بما يعني القبول بأن التفاوض الجاري مع اسرائيل لا يتضمن التفاوض حول الجولان، وان التفاوض السياسي على أعلى المستويات سقفه اتفاق فك الاشتباك، والتفاوض لتقديم تنازلات لا يمكن أن يبلغ السقف، وهذا يعني لبنانيا الاستعداد لتنازلات موازية عن أراض لبنانية محتلة ومياه لبنانية والقبول بترتيبات أمنية تمنح اسرائيل ما كان في اتفاق 17 أيار وأكثر، من الدخول والخروج إلى الأراضي اللبنانية حتى مجرى نهر الأولي، ونقطة إنذار مبكر في جبل الباروك، وتقسيم جنوب الأولي الى ثلاثة مناطق، منطقة خالية من السكان بعمق 5 كلم، ومنطقة خالية من الجيش اللبناني حتى الليطاني، ومنطقة لوجود مراقب ومحدود للجيش اللبناني حتى نهر الأولي، والتصعيد تحت عنوان التهديد بالحرب صار واضحا، والعنوان هو ان على الدولة اللبنانية ان تقوم هي بنزع السلاح حتى ولو كانت الكلفة حرب أهلية، لأن كلفة الحرب الاسرائيلية سوف تكون أعظم كما تقول التهديدات وترجم ذلك الاعتداءات عمليا، وقد قال المبعوث الميركي علنا ان مفهوم الحدود الدولية قد سقط في المنطقة لصالح مفهوم الحدود الآمنة، و هذا معناه ان الحدود يرسمها مفهوم اسرئيل لأمنها بدعم أميركي واضح.
منذ اتفاق وقف إطلاق النار قبل سنة بدأ الصراع على موقع الدولة، بين المقاومة والاحتلال ، وكان رهان المشروع الاميركي بدعم عربي على ايجاد الية لبنانية تنتهي بصدام الدولة والمقاومة، بعدما اكتشف الاحتلال أن كل انجازاته العسكرية والأمنية والنارية لم تنجح بتوفير الشروط لتحقيق هدفين محوريين للحرب، الاجتياح البري حتى الأولي أو حتى الليطاني على الأقل، وتفكيك البيئة الحاضنة للمقاومة من حولها على خلفية الكلفة المرتفعة التي تترتب على احتضان
المقاومة، وصار الرهان على الدولة لتحقيق الأمرين معا، والدولة التي لم تمانع بالأهداف مبدئيا، صاغت مشروعها على قاعدة ان السلاح الشرعي وحده يحمي والانتماء للدولة وحده يستحق الانتماء، لكن الدولة بنت رؤيتها لبلوغ الأهداف على مساعدة اميركية بالتزام اسرائيل بتنفيذ التزاماتها، للسير بملف سلاح المقاومة خطوة وراء خطوة، من جهة ، وضمان تمويل عربي و دولي لإعادة الإعمار، بما يؤكد صواب الرهان في الحماية والانتماء على الدولة، بينما كانت المقاومة واثقة من أن الذي تغير في المنطقة قبل أي شيء آخر هو النظرة الأميركية الإسرائيلية لجغرافيا الأمن، وأن اميركا لن تضغط على اسرائيل، وان اسرائيل لن توقف العدوان ولن تنسحب، وأن وحدة اللبنانيين وحماية عناصر قوتهم وتوحيدها في الدولة والمقاومة هي السبيل لحماية السيادة، وجاء المشهد السوري وفشل الرهان على دعم اميركي اوروبي عربي لتحصين سورية بوجه الاعتداءات والاحتلالات الاسرائيلية رغم عدم وجود مقاومة وسلاح مقاومة ورغم الانخراط بالتفاوض على اعلى المستويات السياسية، ليثبت صحة رؤية المقاومة، بينما جاء الخذلان الأميركي و الغربي و العربي للدولة سواء بعدم اعتبار ان اسرائيل هي المسؤولة عن تعطيل تنفيذ اتفاق وقف اطلاق النار، ثم الامتناع عن تمويل اعادة الاعمار وربط اي تمويل بانجاز نزع سلاح المقاومة، ليسقط خطاب الدولة، ويضعها امام اختبار جلسة 5 آب وتبني ورقة توماس باراك، والدعوة لحصر السلاح بمعزل عن وقف الاعتداءات وتحقيق الانسحاب، ولم يتجاوب الاحتلال، ثم جاءت مبادرات التفاوض اللبنانية، ولم يتجاوب الاحتلال، لأن الأمر الذي صاغه الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي بسؤال هو جواب عمليا، “هل هناك انسحاب اسرائيل من المناطق المحتلة”، والجواب الواضح هو ان لا انسحاب ولا نية للانسحاب ولا ضغوط لفرض الانسحاب، وشيئا فشيئا بفعل ذلك صارت الدولة والمقاومة في خنادق متقاربة بدلا من الخنادق المتقابلة وصار الاميركي والاسرائيلي وبعض العرب واللبنانيين في خنادق متقاربة مقابلة للخنادق اللبنانية للدولة والمقاومة.
التصعيد الاسرائيلي الأخير هو محاولة لإعادة خلط الأوراق تحت ضغط التهديد بالحرب أملا بدفع الدولة لخوض حرب بالوكالة عن الإسرائيلي، لجعل الاحتلال مؤبدا، وحتى الآن تربح المقاومة وتخسر إسرائيل، وهذه هي المعركة الحقيقية، وعلى وجهة هذه المعركة ترسم المقاومة إيقاعها، “أين تكون الدولة في هذا الصراع”؟
