كتب محمود كلّم: في حكايةٍ تبدو عابرة عن ديكٍ صمتَ إلى الأبد، تتخفّى مأساةٌ يعرفها كلُّ من عاش في أرضٍ اعتادت أن تُسكت الصوت قبل أن تُصغي إليه. لم يكن الديك مذنباً حين أيقظ الجيران، ولم يكن صوته اعتداءً، بل كان تذكيراً بأن النهار قادم، لكن أحداً لم يحتمل الحقيقة، فاختاروا ذبحه كي يبقى الليلُ ساكناً كما يشتهون.

عندها أدركتُ، كما أدرك كثيرون عبر التاريخ، أن كلَّ من يحاول إيقاظ الناس من سباتهم يجد أمامه من يستعدّ لقطع رأسه. فالطغاة يخشون الصرخة الصغيرة أكثر ممّا يخشون السلاح، ويخافون الكلمة الواضحة أكثر ممّا يخافون الجموع. فالكلمة حين تُقال بصدق تُصبح دقّةً حادّة في ليلٍ خانق… وهذا ما لا يريده الذين يقتاتون على النوم الطويل.

وفي عالمٍ يتداول فيه الناس أسماء الدجاج، ولا أحد يذكر الديك، تبدو المفارقة مريرة. فالناس يبحثون عمّن يملأ بطونهم، لا عمّن يوقظ عقولهم. يطاردون الخبز، ويهربون من الحقيقة، ويرغبون في حياةٍ بلا صراخ… حتى لو كان الصراخ دعوةً للاستيقاظ.

في فلسطين، تصبح الحكاية أكثر ألماً، فهذه الأرض تُدرك معنى الصوت الحرّ كما تُدرك ثمنه. وتعرف أن الاحتلال يكره الوعي أكثر ممّا يكره الحجارة، وأنه يخشى الكلمة التي تفضحه أكثر من الرصاصة التي تُطلق عليه. ولهذا ظلّت فلسطين تودّع عبر السنين “ديكتها” واحداً تلو الآخر… أصواتاً صافية كانت توقظها قبل أن يُسكتها الرصاص أو القمع أو الغدر.

ومن بين تلك الأصوات، يبقى صوت الشهيد نزار بنات علامةً فارقة في سجلّ الوعي الفلسطيني. رجلٌ لم يطلب إلا حق الناس في أن يعرفوا، وفي أن يقولوا ما يعرفون. كان ديكاً يصيح في زمنٍ يتقن النوم العميق. وحين علا صوته، ارتفعت أصوات أخرى تطالب بإسكاته. لم يحتملوه… فكان مصيره كمصير ذلك الديك الذي ضاق الجيران بصياحه.

لكن ما لم يفهمه مَن أرادوا إسكاتَه، هو أن صوت نزار لم يُدفن معه، وأن صرخته ما زالت تتردّد في كل مكان. لم يكن يملك سيفاً ولا حزباً ولا جداراً يحميه. كان يملك كلمة، والكلمة حين تولد من قلبٍ صادق تصبح أثقل من الرصاص، وأقوى من كل أدوات القمع. رفض أن يكون دجاجةً تُطعم الناس ما يريدون سماعه، وفضّل أن يكون ديكاً يوقظهم مما يريدون الهرب منه.

إن القضية الفلسطينية اليوم ليست بحاجة إلى مزيدٍ من “الدجاج” الذين يُغرقون المشهد بوعودٍ فارغة، بل إلى ديكةٍ توقظ العالم من غفوته. بحاجة إلى أصواتٍ لا تخاف أن تصرخ، ولا تهرب من الحقيقة، ولا تساوم على الوعي أو على حق الناس في المعرفة. فالقضية المحاصرة بالأسوار تحتاج إلى صوتٍ يتجاوزها، لا إلى صمتٍ يختبئ خلفها.

حين نكتب عن نزار بنات، فنحن لا نكتب عن رجلٍ غاب، بل عن معنى بقي. عن صرخة حاولوا ذبحها فارتفعت أعلى. عن ديكٍ أرادوا إسكاته فصار رمزاً. نكتب لأننا نؤمن أن في كل بيتٍ فلسطيني ديكاً صغيراً يكبر صوته يوماً بعد يوم… وأن كلَّ صوتٍ سيكبر ليوقظ من تبقّى من نيام هذا العصر.

وربما حين يأتي الفجر الكامل لفلسطين سندرك جميعاً أن المشكلة لم تكن يوماً في صياح الديك، بل في الذين أرادوا الليل طويلاً لا ينتهي.