شهدت العاصمة اللبنانية الأسبوع المنصرم حراكاً دبلوماسياً مكثفاً، تميّز بتوافد وفود عربية ودولية رفيعة، في لحظةٍ إقليميةٍ مشحونةٍ بالتوتر على الحدود اللبنانية ـ الفلسطينية المحتلة، وتزامناً مع تصعيدٍ دمويٍّ جديد في غزة.
التحركات التي شملت زيارات أميركية ومصرية وعربية بدت وكأنها محاولة لاحتواء احتمالات امتداد الحرب إلى لبنان، ورسالة مركّزة إلى دول المنطقة، خصوصاً إلى القاهرة ودورها المحوري في التهدئة.
فقد استقبلت بيروت خلال أيام قليلة رئيس جهاز الاستخبارات المصرية اللواء حسن رشاد، الذي التقى كبار المسؤولين اللبنانيين، ثم المبعوثة الأميركية الخاصة مورغان أورتاغوس، التي وصلت وسط تصعيد الهجمات الصهيونية على الجنوب والشرق اللبناني، وأخيراً أمين عام جامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، في زيارة رُبطت بالدفع العربي نحو تفعيل الحضور السياسي في الساحة اللبنانية، وإعادة وضع لبنان في صلب المعادلة الإقليمية.
وفي خطوة وُصفت بالمفصلية، اجتمع رئيس الاستخبارات المصرية مع مسؤول العلاقات الدولية في حزب الله السيد عمار الموسوي، في لقاء نادر من نوعه يحمل دلالات سياسية عميقة.
مصادر مطلعة أشارت إلى أنّ الاجتماع تمّ بعلم رسمي لبناني، ويعكس ضوءاً أخضر مصرياً للتحرك نحو تفاهم ميداني ـ سياسي يشبه اتفاق غزة، يقوم على تثبيت خطوط التماس في الجنوب اللبناني واحتواء أيّ تصعيد محتمل، ضمن صيغة توازن تحفظ للبنان سيادته وتمنع انزلاق المنطقة إلى مواجهة شاملة.
وتتداول أوساط ديبلوماسية معلومات أولية عن طرحٍ يجري تداوله في الكواليس الدولية يقضي بنشر قوات مصرية وتركية ضمن إطار قوات أممية موسّعة إلى جانب قوات “اليونيفيل”، لتثبيت التهدئة ومراقبة الحدود الجنوبية، في حال تمّ التوصل إلى اتفاق شامل.
وقبل أن يُعلن الرئيس اللبناني موقفه الصارم، شهد الجنوب اللبناني حادثة دامية في بلدة بليدا، حيث اقتحمت القوات الإسرائيلية مبنى بلدية البلدة فجراً، وأطلقت النار على موظف داخلها، ما أدى إلى استشهاده.
الحادثة هزّت الرأي العام اللبناني، وشكّلت نقطة تحوّل في التعاطي الرسمي مع الاعتداءات الإسرائيلية، إذ اعتُبرت خرقاً فاضحاً للسيادة واعتداءً مباشراً على مؤسسات الدولة المدنية.
في أعقاب الجريمة مباشرة، عقد الرئيس العماد جوزيف عون اجتماعاً طارئاً في القصر الجمهوري مع قائد الجيش العماد رودولف هيكل، وطلب خلاله من الجيش اللبناني التصدي الفوري لأيّ اقتحام أو خرق بري إسرائيلي، مؤكداً أنّ الدفاع عن السيادة الوطنية واجب مقدّس لا يخضع لأيّ حسابات سياسية أو تفاهمات دولية.
وقد استجاب الجيش اللبناني فوراً، فعزّز مواقعه في الجنوب، ورفع جهوزيته اللوجستية، واستقدَم وحدات دعم إضافية، مع تنسيق متواصل مع قوات “اليونيفيل” لضبط الحدود ومراقبة الخروقات.
ورغم كثافة التحركات السياسية، استمرّ الكيان الإسرائيلي في خروقاته واعتداءاته، حيث شنّ سلسلة غارات على محيط مارون الراس والعديسة والناقورة وعدد من البلدات الجنوبية.
هذا التصعيد، الذي أعقب مباشرة لقاء المسؤول المصري مع حزب الله، فُهم كرسالة ضغط إسرائيلية ضدّ أيّ مسعى لبناني ـ مصري ـ عربي لتكريس تهدئة مستقلة لا تمرّ عبر البوابة الأميركية ـ “الاسرائيلية”.
في موازاة التصعيد الميداني، أدلى المبعوث الأميركي توم براك بتصريح حادّ، قال فيه إنّ “إسرائيل لن تتردّد في شنّ هجمات واسعة إذا استمرّ حزب الله في نشاطه العسكري”، مضيفاً أنّ “لبنان دولة فاشلة سياسياً واقتصادياً، وعليها أن تخضع للتوجيهات الأميركية إذا أرادت البقاء ضمن منظومة الدعم الدولي”.
تصريح برّاك اعتُبر تهديداً مبطناً وابتزازاً سياسياً للبنان الرسمي، في محاولة لفرض الإملاءات الأميركية تحت غطاء “الحماية من الانهيار”، بينما تعكس اللهجة المستخدمة رغبة واشنطن في إعادة تعريف حدود السيادة اللبنانية وفق مصالحها ومصالح تل أبيب.
المشهد اللبناني اليوم يتجاوز حدود التوتر العسكري. فبينما يسعى لبنان الرسمي إلى تثبيت معادلة السيادة والردع، تتحرك القوى الإقليمية والدولية لإعادة توزيع أدوارها على الأرض اللبنانية.
مصر تطرح نفسها كضامن للتهدئة، تركيا تبحث عن موطئ قدّم ضمن القوات الأممية، الولايات المتحدة تمارس ضغطاً سياسياً عبر التهديد والوصاية، و”إسرائيل” تواصل عدوانها في محاولة لتغيير الوقائع الميدانية.
ومع ذلك، فإنّ ردّ فعل الرئاسة اللبنانية والجيش بعد جريمة بليدا أعاد رسم حدود الموقف الوطني، وأثبت أنّ بيروت ليست مستعدة لتكون ساحة تفاوض أو صندوق بريد لرسائل الآخرين.
أما التهديدات الأميركية ـ الإسرائيلية، فستواجه بصلابة لبنانية مدعومة بإجماع شعبي وسياسي متجدد على حماية الأرض والسيادة.
في المحصلة، يبدو أنّ من يريد تهدئة غزة عليه أن يمرّ عبر بيروت، ومن يريد اختبار بيروت سيكتشف أنّ الجنوب ليس ورقة تفاوض، بل معادلة توازن تتشكل من جديد في قلب المشرق.
رانيا كامل يونس باحثة في الشؤون الجيوسياسية لبنان
