البحر الأحمر جمر تحت الرماد: المنافسة على النفوذ بين مصر وإثيوبيا وإريتريا

رانيا كامل يونس باحثة في الشؤون الجيوسياسية

في خضم التطورات الجارية في غزة والبحر الأحمر، تتكشف أزمة إقليمية متصاعدة في شرق أفريقيا، تُهدد بإعادة تشكيل موازين القوى. فالعلاقة بين إثيوبيا وإريتريا، التي عرفت سلامًا هشًا منذ اتفاق عام 2018 بين رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد والرئيس الإريتري أسياس أفورقي، تتأرجح باستمرار بين الاستقرار والانفجار، مع استمرار حالة انعدام الثقة التي تفاقمت إثر التدخل الإريتري في حرب تيغراي (2020 -2022).
وفي هذا السياق المعقد، يتجلى الدور المتنامي لمصر الداعم لأسمرة، في مقابل حضور إسرائيلي متزايد في أديس أبابا، مما يستحضر إلى الواجهة تاريخ الصراع على النفوذ والسيطرة على طرق الملاحة والمنافذ البحرية الحيوية في البحر الأحمر.
وإذا ما أردنا الخوض في السبب الرئيسي لهذا الصراع ، فقد كانت الحرب الحدودية بين الدولتين في أيار 1998 ولسنوات عديدة من أكثر الصراعات دموية في أفريقيا.
وعلى الرغم من إعلان السلام رسمياً بين الدولتين في تموز 2018، إلا أن هذا الإنجاز لم ينجح في تبديد الشكوك العميقة.
ذلك أنه وبالنسبة لإثيوبيا، كدولة غير ساحلية منذ استقلال إريتريا عام 1993، يمثل الوصول إلى البحر الأحمر والموانئ الإريترية، ولا سيما ميناء عصب، مسألة بقاء استراتيجي تتجاوز المصالح التجارية إلى طموحها في استعادة مكانتها الجيواستراتيجية والقدرة على المنافسة الإقليمية.
في المقابل، تعتبر إريتريا أي سعي إثيوبي للتوسع نحو البحر تهديدًا مباشرًا لسيادتها، وهو ما يتزامن مع زيادة وجود القواعد العسكرية الأجنبية على سواحلها.
هذا التوتر هو ما دفع القاهرة لتعزيز تحالفاتها في القرن الأفريقي، حيث تُعد استراتيجيتها ردًا مباشرًا على التهديد الجيوسياسي المزدوج الناشئ عن إثيوبيا:
أولًا في ملف الموارد المائية (سد النهضة)، وثانيًا في سعيها للتوسع نحو البحر الأحمر، والذي يُنظر إليه كتهديد محتمل لمكانة مصر كقوة بحرية رئيسية.
هذا التوجه تُرجم في قمة أمنية ثلاثية عقدت في أسمرة في تشرين الأول 2024 ضمت مصر وإريتريا والصومال، بهدف تشكيل محور دفاعي-أمني لتطويق النفوذ الإثيوبي عبر الردع غير المباشر وتعزيز الأمن المشترك والتعاون البحري.
كما أكد الرئيسان عبد الفتاح السيسي وأسياس أفورقي في لقاء آذار 2025 رفضهما القاطع لأي تواجد عسكري لدولة “غير ساحلية” على سواحل البحر الأحمر.
إلا أن المشهد الاستراتيجي للبحر الأحمر أكثر ازدحامًا، حيث تحولت سواحله إلى منطقة تنافس دولي معقد.
فمصر تدير عمليات لوجستية وبحرية مشتركة في ميناء مصوع، بينما تحتفظ إسرائيل بحضور استخباري وتقني في إثيوبيا من خلال تعاون أمني متعدد الأوجه – والذي يأتي في سياق خطة إستراتيجية من أهدافها اختراق الصومال ثم محاصرة الأمن القومي العربي من خلال سحب مياه النيل إلى أراضي الكيان الإسرائيلي من أقرب نقطة إفريقية، وبالتالي تهديد مشروعات الري والكهرباء بوادي النيل ودلتا مصر.
بالإضافة إلى ذلك، تسعى إيران لتوسيع نفوذها عبر تحالفات بحرية محدودة مع إريتريا.

هذا التواجد المتعدد للقواعد والقوى الفاعلة جعل من الممر الإريتري بين باب المندب وعصب نقطة عسكرية عالية التعقيد تخضع للمراقبة المشددة من عواصم إقليمية ودولية.
يأتي هذا التصعيد في وقت يواجه فيه مشروع سد النهضة الإثيوبي -بالرغم من رمزيته القومية- إخفاقات مالية وتشغيلية كبيرة، حيث لم يصل إلى مستوى الإنتاج المستهدف (5000 ميغاواط) وفقًا لتقارير الفترة 2024-2025.
ولهذا السبب، فقد شكل هذا الفشل المالي والتشغيلي النسبي دافعًا قويًا وراء تسريع إثيوبيا لمشاريعها البحرية، بحثًا عن روافد اقتصادية بديلة لتعويض الخسائر ولإعادة التموضع الجيواستراتيجي، بعد أن أثبت السد أنه ليس الأداة الوحيدة الفعالة للهيمنة الإقليمية، ما أجبر إثيوبيا للبحث عن منفذ تجاري عميق ومباشر أمرًا ملحًا لتحسين اقتصادها الهش.
أما في إريتيريا، فتنشط جماعات معارضة تطالب بمزيد من الحكم الذاتي أو الانفصال، خاصة في المناطق الحدودية المتاخمة لإثيوبيا. بعض هذه الجماعات، مثل «جبهة التحرير الإريترية الجديدة»، تُتهم بتلقّي الدعم من أديس أبابا بهدف الضغط على حكومة أسمرة.
الا أن مواقف هذه الجماعات المتذبذبة بين معاداة إثيوبيا أو الانقلاب على نظام أفورقي نفسه، تضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى المشهد الأمني الداخلي.

في الختام، تبدو العلاقة الإثيوبية-الإريترية اليوم على حافة تصعيد جديد قد يتخذ شكل المنافسة على النفوذ الاستراتيجي في البحر الأحمر بدلًا من المواجهة البرية المباشرة.
حيث أن القاهرة وأسمرة تتقدمان بثبات في بناء محور دفاعي ضد الطموح الإثيوبي، بينما تراهن أديس أبابا على إعادة بناء دورها الإقليمي عبر السدود والاقتصاد البحري.

ومع تشكيل القاهرة وأسمرة محورًا دفاعيًا لمواجهة الطموحات الإثيوبية، وسعي أديس أبابا لتطوير اقتصادها البحري، يظل البحر الأحمر ساحة لتداخل المصالح الإفريقية، العربية، والدولية، التي تضم قوى فاعلة كإيران، وإسرائيل، وتركيا، مما يُنذر بأن الأزمة المقبلة في القرن الأفريقي قد تكون بحرية في جوهرها.