حين يُصبح الفداءُ مدرسةً للأجيال.
جِهاد هرّاش
وماذا عن أولئك الذين بلغوا الكمال الإيماني، وسلكوا أعظم الطرق إلى الله؟
أولئك الذين ارتقت أرواحهم إلى جنات النعيم، وسطروا بدمائهم أزكى ملاحم التضحية والفداء، امتثالًا لقول الله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}.
لم تكن حياتهم مجرد لحظات عابرة، بل كانت صفحات خالدة نُحتت في ذاكرة الأمة، تروي مواقفهم الأسطورية التي لا تُنسى، وتُلهب فينا جذوة الإيمان والعزة.
إنهم الشهداء… من جعلوا من الموت حياة، ومن الألم أملاً، ومن الفقدان ولادة جديدة للكرامة.
نعم هم الشهداء الذين أعادوا للأمة فخرها ومجدها، وأشعلوا في قلوبنا العزة ورفض الذل والهوان، حتى وإن كان الثمن باهظًا، فإنه يُرخص في سبيل الله، وفي سبيل العيش بحريةٍ واستقلال.
هم منارة الحق التي لا تنطفئ، وأيقونة الفداء التي لا تُنسى، الذين تركوا الحياة الدنيا بكل ما فيها من متاع، حبًّا في الجهاد، وعشقًا للشهادة.
فخلّدهم التاريخ، وخلّدهم الدعاء، وخلّدهم الوطن.
وهكذا أصبحت حياتهم الجهادية مدرسة يتوافد إليها الأجيال، لينهلوا من صبرهم وثباتهم، ورباطة جأشهم، ورقيّ إيمانهم، ونُبل أخلاقهم، وسموّ أرواحهم.
لم تقف تضحياتهم عند نقطة معيّنة، ولم تنحصر آثارهم عند حدود المعركة، بل امتدت جذورها في كل زاوية من زوايا الحياة، ورُسمت في أعماق القلوب بحبر دمائهم، لتصبح سيمفونية يعيش تحت ظلها شعب يغمره الشموخ، بأغصان العنفوان وأوراق الكرامة، ويحفّه السلام من كل جانب.
فها هي الأمة تُخلّد ذكراهم في كل مكان وزمان، وعبر الأجيال، وقد رسّخت مفهوم الشهادة ومعنى الاستشهاد، وقدّست الشهداء: عمالقة الأرض، وملائكة السماء، والسيف الضارب ضد الأعداء، الكابوس المرعب للطواغيت، والضربة القاضية في وجه المستكبرين.
فأينما يولّوا وجوههم، يجدوا أمامهم هامةً عملاقةً لشهيدٍ قد ترك بصمته الخالدة في هذا الكون.
فما أعظمها من أمانةٍ تركها لنا الشهداء! وما أثقل العهد الذي ورثونا إياه، وما أقدس الطريق الذي عبّدوه لنا، لنمضي عليه ونُكمل مسيرتهم من حيث توقّفوا.
فإحياء ذكراهم لا يكون بالكلمات المعبّرة والحديث عنهم فحسب، بل بإحيائهم في ضمائرنا، وفي أعماق أفئدتنا، عملًا قبل أن يكون قولًا.
فكل خطوة نمضي بها نحو الحق هي امتداد لخطواتهم، وكل كلمة نصدح بها في وجه الظلم هي صدى لأصواتهم التي لم تخف يومًا.
فدماء الشهداء لم تُسكب عبثًا، بل كانت لبنةً في بناء الأمة، ومرحلةً للنهوض الحضاري نحو النور وفجر الحرية.
وعندما يُصبح الفداءُ مدرسةً للأجيال، تولد أمةٌ لا تعرف التراجع ولا الإنكسار، تحملُ في وجدانها ثقافة القرآن وروح الدين لترث الرسالة التي بدأها الشهداء جيلًا بعد جيل.
