القلبُ النابضُ يعودُ من جديدٍ في “أُولِي بَأْسٍ شَدِيد”.
عدنان عبدالله الجنيد،اليمن
لم تكنْ سوريّةُ مجرّدَ رقعةٍ جغرافيةٍ على خريطةِ الشرقِ، بل كانت ـ ولا تزالُ ـ قلبَ العروبةِ النابض، ومرآةَ الصراعِ الحضاريّ في المشرق، ومحرابَ الفكرةِ المقاومةِ التي واجهت مشاريعَ الهيمنةِ والاستكبارِ. ومع تسارعِ التحوّلاتِ الإقليميّةِ وبروزِ محاورَ جديدةٍ في ميادينِ المواجهة، انبثقت من رحمِ المعاناةِ ملامحُ مرحلةٍ جديدةٍ من الصمودِ المقاوم، تجلّت أبرزُ صورِها في ولادةِ “جبهة المقاومة الإسلامية في سورية: أُولِي البَأْسِ الشَّدِيد”، وهي ظاهرةٌ تستحقّ قراءةً إستراتيجيّةً عميقةً لما تمثّله من تحوّلٍ نوعيٍّ في ميزانِ القوى النفسيّ والسياسيّ في المنطقة.
أولاً – القراءة الإستراتيجية: الأهميةُ الإقليميةُ لـ«أُولِي البأس»
1-سدُّ الفراغِ واستعادةُ الدورِ المحوريّ:
حينما تتصدّعُ الهياكلُ المركزيّةُ، تتولّدُ فراغاتٌ لا تملؤها إلا الإرادةُ الثابتة. ومن هنا، جاءَ ظهورُ هذه التشكيلاتِ المقاومةِ في سوريةَ كإعادةِ تثبيتٍ لمحورِ المواجهةِ ضدَّ مشاريعِ التفتيتِ والوصايةِ الأجنبية. إنّهُ ليس فعلاً محليّاً، بل رسالةٌ موجهةٌ إلى من يسعونَ لإعادةِ هندسةِ الشرقِ الأوسطِ وفقَ مقاييسِ الاستعمارِ الحديث.
2- إستراتيجيةُ الردعِ بالضغطِ الموجّه:
تُدركُ القوى المقاومةُ أنّ الحربَ الحديثةَ لا تُخاضُ بعددِ الجيوشِ فقط، بل بالقدرةِ على صناعةِ الهاجسِ والردعِ الذهنيّ والسياسيّ. وهكذا جاءت “أُولِي البأس” كتنظيمٍ ديناميكيٍّ صغيرِ الحجمِ، عميقِ الأثرِ، يجمعُ بين الميدانِ والإعلامِ في تحقيقِ ردعٍ واستنزافٍ فعّالٍ للعدوّ.
3- تجذيرُ السرديّةِ الدينيةِ والرمزيّة:
إنّ اختيارَ الاسمِ من آيةٍ قرآنيةٍ يحمِلُ بعداً إيمانيّاً وتربويّاً، يربطُ بين القداسةِ والكفاحِ، ويُعيدُ صياغةَ هويةٍ مقاومةٍ تتجاوزُ الميدانَ العسكريّ لتصبحَ مشروعاً حضاريّاً متكاملاً.
ثانياً – المشهدُ الميدانيّ: الإمكاناتُ والقيود:
1- القدراتُ والموارد:
تستندُ هذه التشكيلاتُ إلى مقاتلينَ محليّينَ ذوي خبرةٍ، وإلى دعمٍ لوجستيٍّ من داخلِ محورِ المقاومة بحكم المنطق، مما يمنحها القدرةَ على تنفيذِ عملياتٍ مؤثرةٍ محدودةٍ وموجعةٍ للعدوّ. ومع ذلك، تبقى السيطرةُ الإقليميّةُ الدائمةُ رهينةَ التوازناتِ الدوليّةِ وتعقيداتِ الميدانِ السوريّ.
2-الإعلامُ كسلاحٍ موازٍ للميدان:
أصبحتِ الحربُ الإعلاميّةُ جزءاً لا يتجزأُ من المعركة، حيث تُسهمُ البياناتُ والمشاهدُ المصوّرةُ في صناعةِ الهزيمةِ النفسيّةِ قبلَ العسكريّة، وفي ترسيخِ صورةِ البأسِ المقاومِ الذي لا يُقهرُ.
3- التحدّياتُ والقيود:
يبقى المشهدُ السوريُّ مُتشابكاً بتداخلِ القوى الإقليميّةِ والدوليّةِ، من تركيا والكيانِ الصهيونيّ إلى الولاياتِ المتحدةِ وروسيا. وهذا التعقيدُ يفرضُ على أيِّ تشكيلٍ مقاومٍ أن يتحرّك ضمنَ هوامشَ دقيقةٍ تحفظُ استقلالَ قرارهِ وتوازنَ تحالفاتهِ.
ثالثاً – الرؤيةُ السياسيةُ والعالميّة: التأثيرُ في موازينِ القوى:
1- إحياءُ محورِ المقاومةِ بصيغةٍ جديدة:
كلُّ كيانٍ مقاومٍ يُربكُ خططَ العدوّ ويمنعُ تمددهُ هو حجرُ توازنٍ في معادلةِ الردعِ، ويُعيدُ للعالمِ إدراكَ أنّ القوةَ الحقيقيةَ في إرادةِ الشعوبِ لا في ترسانةِ الأسلحةِ.
2- ترسيخُ منطقِ الردعِ غيرِ المتماثل:
إنَّ استخدامَ وحداتٍ محليّةٍ متجانسةٍ مدعومةٍ إقليمياً يُتيحُ تطويرَ إستراتيجيةِ ردعٍ فعّالةٍ، بتكلفةٍ منخفضةٍ وعائدٍ سياسيٍّ مرتفعٍ، وهو ما يرفعُ مستوى الحذرِ لدى العدوّ ويُكبّلهُ في خياراتهِ العدوانيّة.
3- رسالةٌ إلى العالم:
المقاومةُ ليستْ حكراً على الأنظمةِ والحكوماتِ، بل هي حقٌّ أصيلٌ للشعوبِ الحرّةِ. فحينَ تضعفُ الدولةُ، تنهضُ الأمةُ، وحينَ يُحاصرُ القرارُ، يتكلمُ الوجدانُ الجمعيُّ بلغةِ الجهادِ والبقاءِ.
رابعاً – توصياتٌ إستراتيجيةٌ مبسطة:
سياسياً: بناءُ جبهةٍ دبلوماسيةٍ صلبةٍ لتحويلِ المكاسبِ الميدانيةِ إلى إنجازاتٍ سياديةٍ معترفٍ بها دولياً.
إعلامياً: الاستثمارُ في سرديّةِ المقاومةِ التاريخيّةِ لتعزيزِ المناعةِ المعنويّةِ وفضحِ جرائمِ الاحتلالِ.
تحالفياً: الحفاظُ على استقلاليّةِ القرارِ الوطنيّ مع انفتاحٍ محسوبٍ على التحالفاتِ التي تُعزّزُ القدرةَ دونَ الارتهانِ.
وليعلمِ الغزاةُ والطامعونَ أنَّ الأرضَ التي أنجبتِ المقاومينَ لا تعرفُ الخضوعَ، وأنَّ الصبرَ الذي حملَ البندقيةَ لن يُفرّطَ بذرةً من ترابها. فلكلِّ عدوانٍ ثمنٌ لا يُقاسُ بالأرقامِ، ولكلِّ اعتداءٍ جوابٌ لا يُترجَمُ بالكلماتِ. إنَّ أيَّ مساسٍ بسيادةِ سوريةَ أو محورِها المقاومِ سيقابلهُ بأسٌ يُعيدُ إلى الأذهانِ ملاحمَ القصاصِ العادلة، ويقلبُ حساباتِ المعتدينَ رأساً على عقب. فلتُراجعْ قوى الاستكبارِ خرائطَها قبلَ أن تُراجعَ تواريخَ هزائمِها، ولتُدرِكْ أنّ في الشرقِ قلوباً لا تنامُ، وأياديَ لا ترتجفُ، وعزائمَ لا تُقهرُ.
الخاتمة:
يا سوريّةَ العروبةِ والإباء، يا قلبَ المقاومةِ النابض، حينَ تنهضينَ تهتزُّ الموازينُ وتخرسُ الأبواقُ، ويعلمُ العالمُ أنَّ زمنَ الإملاءاتِ قد ولّى، وأنَّ الشعوبَ إذا عزمتْ انتصرتْ. ما وُلدَ من رحمِ الحصارِ والشهادةِ لا يموتُ، وما سُقيَ من دماءِ الأبطالِ لا يذبلُ.
إنَّ عودةَ “أُولِي البَأْسِ الشَّدِيد” ليست حادثةً عابرةً في سجلِّ الحروب، بل هي نهوضُ أمةٍ عاهدتْ ربَّها أن لا تنكسرَ، وأن تردَّ العدوانَ باليقينِ والإيمانِ والحديد.
فليعلمِ العدوُّ أنَّ القلبَ الذي عادَ للخفقانِ، لن يعودَ إلى السكون، وأنَّ الشرقَ الذي صحا من رُقادِه، لن يَسمحَ بعدَ اليومِ أن يُملى عليه مصيرُه…
فها هو النبضُ يعودُ من جديدٍ، في أُولِي بَأْسٍ أَشَدَّ، وعهدٍ أوفى، ورايةٍ لا تُطوى حتى يتحقّقَ الوعدُ الإلهيُّ بالنصرِ الموعود.
عدنان جنيد_اليمن
