تتوالى الأنباء عن مظاهرات الحريديم الرافضين للتجنيد في قوات الاحتلال، في وقت تتوالى أنباءٌ أخرى عن أعدادٍ مذهلةٍ من القتلى والجرحى والمتأزِّمين نفسياً وعقلياً من الجنود “الإسرائيليين” بسبب ويلات الحرب، الأمر الذي ينذر بسقوطٍ مدوٍّ ومخزٍ لأسطورة “الجيش الذي لا يقهر” ، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنَّ الحريديم هم الفئة المتفرِّغة تمام التفرُّغ لدراسة التوراة والتلمود -المزورَين بطبيعة الحال- و هم الذين يؤمنون أنَّ أرض فلسطين التاريخية هي أرضهم الموعودة، وأنَّ إبادة الفلسطينيين وكل ما له صلة بهم من حيوان وشجر وحجر هو تحقيق للتعاليم التوراتية بمسح “العماليق” عن وجه البسيطة، أليس من بابٍ أولى أن يكونوا أول مَن يرغب بالتجنيد؟! أليس من الطبيعي أن يتظاهرَ بدلاً عنهم الصهاينة بأغلبيتهم العلمانية القادمة من أميركا وأوروبا رفضاً لمواجهة خاسرة مع صاحب الأرض الفلسطيني بكل مذاهبه وطوائفه؟؟
التجمع “الإسرائيلي” كما يفضل العديد من المفكرين بتلقيبهم بدلاً من استخدام مصطلح المجتمع، عبارة عن خليطٍ غير متجانس من خلفيات عرقية دينية ثقافية أخلاقية مختلفة لا يوجد بينهم عامل مشترك سوى عدائهم الطاغي للفلسطينيين ورغبتهم بإقامة دولة يهودية الهوية على أرض فلسطين من النهر إلى البحر على أقل تقدير.
هذا التجمع يعيش في توازن بالغ الدقة، دائم التهديد بالانفجار بسبب الخلافات التاريخية بين الفئات اليهودية المختلفة ذات الخلفيات غير المتقاربة؛ يضم هذا التجمع الصهاينة اليهود المتدينين مثل الحريديم الأصوليين الذين لا يعملون ولا يدفعون الضرائب ويمضون كل وقتهم في الدراسة الدينية، ويعيشون حياتهم ضمن ضوابط توراتية شديدة التعقيد، تجعل انسجامهم مع اليهود الصهاينة العلمانيين القادمين من الغرب، العاملين في الكيان ودافعي الضرائب أمراً صعباً جداً لولا كرههم المشترك لكل ما هو فلسطيني.
هذا الصراع القديم الجديد بين اليهود السفرديم والأشكيناز ويهود الشرق يجعل تناغم هذا التجمع “الإسرائيلي” أقرب للمستحيل؛ فكيف لأحدٍ أن يجمع بين كل هؤلاء تحت قانون واحد يراعي خصوصية كلٍّ منهم وهم من شتى بقاع الأرض؟! الحل الوحيد هو أن نجعل لهم جميعاً عدواً واحداً يجدون فيه عاملاً مشتركاً يجمع بينهم ، وهو الأمر الذي يفسر حاجة الكيان المحتل للحروب المستمرة كضرورة لبقائه ، ومع هذه التوليفة العجيبة علينا ألا نستهجنَ وجود حكومة يمين ويمين متطرف تحكم الكيان منذ أكثر من عقدين من الزمن ، و لكنَّ هذا المشهد أنتج لنا مشهداً آخرَ يثير بعض التساؤلات: كل المظاهرات التي خرجت في “تل أبيب” داعية لعقد صفقة تبادل أسرى كانت من عائلات الأسرى وذويهم وبعض مناصري هذا التوجه هنا وهناك في أعداد خجولة لا تغِيّر في المشهد السياسي شيئاً ولا تشكل أي عامل ضاغط على “الحكومة” الصهيونية لإنهاء الحرب، وكأنَّ أحدَهم لا يكترث لمصيبة الآخر، حتى إنك تراهم يقتتلون فيما بينهم في هذه المظاهرات بين داعم للحرب وداعم لصفقة تبادل الأسرى، فما الذي يدفع نتنياهو لعقد صفقة تبادلٍ استرضاءً لبعض المئات من “شعبه”، وهو يعلم في قرارة نفسه أنهم هم أنفسهم لولا وجود أفراد من عائلاتهم في قبضة المقاومة لخرجوا في مظاهراتٍ داعمة للحرب وداعية لاستكمال إبادة الفلسطيني ولو كان لغيرهم من “الإسرائيليين” أسرى يُقتلون ويبادون؟ نتنياهو، وهو ابن هذه البيئة العليلة، يعلم توجهات هؤلاء المنافقين، وهو يعلم أيضاً ضعف الروابط الأسرية بين هذه العائلات أصلاً التي لم تنتفض حق الانتفاض لأرواح أبنائهم الأسرى، واكتفوا بمسيرات ومظاهرات ومسرحيات سخيفة لجذب التعاطف العالمي، ونحن الذين رأينا بالمباشر ضحالة مشاعرهم تجاه بعضهم البعض والتي ظهرت جلياً في الصور والفيديوهات التي صدرت عنهم أثناء تبادل الأسرى في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، مقارنة بالمشاعر الجياشة والدفء والحب والبر الذي لمسناه من الأسرى والأسيرات الفلسطينيين عند لقائهم مع عائلاتهم.
واستكمالاً لهذه النقطة، إذا ما نظرنا للمجتمع الفلسطيني و ردّات فعله في وجه حرب الإبادة هذه لنقارنها بنظيرتها “الإسرائيلية”، لرأينا على سبيل المثال أنَّ مراسلي الأخبار ينقلون لنا اسم العائلة المستهدفة في قصف مبنىً سكني ما في غزة العزة، ليخبرنا الواحد منهم عدد أفراد العائلة الشهيدة ومَن أفراد العائلة الممتدة الذين كانوا معهم في تلك اللحظة، بل قد يذهب ليخبرنا أيضاً بالتحصيل العلمي لكلِّ شهيدٍ وحالته الاجتماعية وعمر أطفاله.
سنرى أن فيديوهات القصف التي تردنا من أرض الرباط، تشهد أنَّ الفلسطينيين يركضون نحو موقع القصف لا بعيداً عنه، لأنَّ كلاً منهم يعتبر نفسه راعٍ ومسؤولاً عن رعيته، فكيف يتركون كوادر الدفاع المدني ينقذون الأحياء وينتشلون الشهداء وحدهم؟ ستشاهدهم وهم يحفرون الأرض ويرفعون الأنقاض بأيديهم العارية، ويغصُّ قلبك غبطةً وحسرةً في آن معاً وأنت تراهم يؤثرون تغطية عورة إخوانهم ولو عروا هم. ستصلك الأخبار أنَّ الأم الفلسطينية رفضت أن يتبنى أحد ذلك اليتيم غيرها، لتعتني به وتبكيه إذا جرح أو استشهد وكأنه من لحمها ودمها، فهي تعلم أن دم الفلسطيني من أم واحدة وأب واحد ولو تعددت أسماء العائلات .
سترى طفلاً لا يزال يتعثَّر في خطاه يقسم كسرة خبزٍ لا يدري كيف وصلت إلى يده ليعطيها لقطته المفضلة التي واست خوفه ولعقت جراحه وشاركته النزوحَ وكسرةَ الخبز تلك.
في كل هذه التفاصيل لا نملك إلا أن ننحي احتراماً أمام هذا الشعب العظيم بتعاضده وتماسكه وصموده وإنسانيته اللامتناهية، فالكل هناك فلسطيني.
نفذَّت الصهيونية لعقود طويلة خططها المبنية على مبادئ الدمار والإبادة والعنف غير المسبوق، واستدعت كلَّ آلهة الشر في طقوسها “لتطهير” الأرض من أهلها وبناء ترسانتها العسكرية، وصناعة مستوطنين فاقدين للأخلاق والدين والعقيدة وكل مشاعر الإنسانية ، بينما في الضفة المقابلة، أدرك الفلسطيني أنَّ خلاصه في صناعة نفسه قبل صناعة سلاحه؛ فأمضى سنيناً طويلة يصنع إنساناً راسخاً متجذراً بعقيدته وأخلاقه، مقاوماً لكل محاولات العدو العسكرية وغير العسكرية لطرده من أرض أجداده، ليتم ترجمة هذا كله في مشهد بديعٍ : حريديم يقسمون أنهم يفضلون الموت على القتال مع جيش الاحتلال ويهددون بالرحيل بلا رجعة، وفلسطيني يخرج من بين الركام يحمل فلذة كبده الشهيدة ليقول : والله ما احنا منهزين!!
أسيل إبراهيم – الأردن