لم تبق دولة ولا مجموعة بشرية لم تحاول مد أيديها في الطبخة السورية سواء مباشرة أم غير مباشرة ، ولم تبق هيئة أممية أو تجمع بشري أو حتى قبيلة لم تنضم إلى محفل تلك الدول ، ولم يبق غبي أو جاهل أو عميل لم ينضم إلى جوقة المطبلين المنادين بالحرية والديمقراطية الزائفتين القادمتين من وراء البحار أو من وراء الجبال أو من وراء الرمال ، تم تجميعهم في مؤامرة كونية لم يشهد مثلها التاريخ لتحقيق هدف واضح لكل ذي بصر وبصيرة وهو هدم الدولة فقط فصمدت الدولة خمسة عشر عاماً ولكنها إنهارت أخيراً فجاءت اللادولة التي باركوا لها وحولها.
قبل سقوط النظام المقاوم وصفت تجمع المتآمرين على سوريا بأنه عبارة عن “سباغيتي” يختلط فيه الحابل بالنابل وكل متآمر فيه قد تدرك بدايته ولا تدرك نهايته الغامضة وإمتداداته حيث تدعي دول بأنها تكافح الإرهاب والدكتاتورية وفي نفس الوقت تدعم فصائل إرهابية ودكتوريات معروفة، تتفق على هدم الدولة وتختلف فيما بينها على مصالحها المتضاربة مع دول أخرى . في ظل هذا الوضع سقطت الدولة السورية وسقطت معها الوعود بالحرية والديمقراطية والرخاء الإقتصادي ، وسقطت معها المعارضات الهزيلة التي إستمعت بأموال التآمر، إلى الهاوية ليصطدم الشعب بالحقيقة المرة وهي أن مكتسبات الشعب السوري التي تحققت على مدى نصف قرن قد تبخرت في ليلة ظلماء في نصف ساعة ، وأن الدول التي دفعت 137 مليار دولار لهدم الدولة السورية (بإعتراف محمد بن جاسم وزير خارجية قطر الأسبق) ليست مستعدة لدفع دولار واحد لإنقاذ السواد الأعظم من الشعب من الفاقة والحاجة وأن شبه النظام الجديد الهزيل غير قادر على دفع مرتبات الموظفين بإنتظام فتحول الأمل الكاذب إلى ألم صادق وتحولت “سباغيتي المتآمرين” إلى “طبخة بحص” بينما إنشغل الشعب المغلوب على أمره بالقصص الخيالية عن الإحتلال الروسي والإحتلال الإيراني.
لنلق نظرة على ما آل إليه وضع كل دولة من الدول التي كانت طرفاً في المعادلة ، وذلك في ظل المعطيات الحالية وبعد زيارة الجولاني لموسكو ولقاؤه الرئيس بوتين ؛
روسيا الإتحادية
تحولت تصريحات الجولاني النارية السابقة بشأن إلغاء الوجود الروسي في سوريا إلى زيارة بهدف “تنظيم العلاقات الثنائية وملفات التعاون السياسي والإقتصادي” ، وهذا تحول جوهري في الوضع السوري وليس مجرد علاقات دبلوماسية ، لا سيما مع أنشطة الدول العربية في إعادة رسم مكانها في المنطقة ، يحاول الجولاني كسب الشرعية الدولية المفقودة من أي باب يخطر بباله فذهب إلى موسكو ليستجدي الشرعية من موقع الذليل وليس من موقع رئيس دولة ند (لاحظ لغة الجسد وإنحناؤه لبوتين لدى مصافحته في الصور المتداولة) وبالتالي يسعى إلى الحصول على الإعتراف برئاسته بأي ثمن ، مقابل ذلك برزت الرموز الإستعلائية لبوتين على الجولاني من إختياره لقاعة تستخدم لوفود الدرجة الثانية بدلاً من قاعات الكرملين الرسمية ، إستخدام الدرج في إستعراض للرقي الإمبراطوري ، وضع الأعلام خلف الجولاني ، وهذا كله لم يحدث مع الرئيس الأسد إطلاقاً لأن هيبته كرئيس دولة كانت تكفي.
تتعامل روسيا مع الجولاني على أنها اليد العليا التي تملي التصرفات وليس من موقع شريك يتشاور مع شريكه كما كان الحال مع النظام السابق ، تمسك بخيوط لعبة ما ولا تشارك في تلك اللعبة أو تدخل في تفاصيل الحكم ، وتدرك أن دمشق أصبحت بلا سيادة وأن حاكمها مجرد واجهة فلا بأس من أن تستخدمه لخدمة مصالحها وملفاتها الدولية ولا تمانع بوجود صيغةٍ تحفظ لها وجودها دون التورّط في إستنزاف نابع من التفاصيل السياسية طالما أنها تعتبر شبه النظام هذا حاجزا لإبعاد الخطر والفوضى عن قواعدها ، مع محاولة الحفاظ على توازن هش مع أنقرة لا يمر دون قلق إقليمي.
الإمارات العربية المتحدة
يقف الخليج عامة أمام وضع معقد فهو لا يستطيع دعم سلطة جهادية ولا يريد أن يترك الساحة لروسيا لتعود للإمساك بدمشق ، دفعت الإمارات وعدة عواصم عربية باتجاه مشروع تنظيف الساحة السورية من الميليشيات الأجنبية كشرط لأي تسوية سياسية واقتصادية لكن هذا المطلب يصطدم بواقع صعب فالميليشيات هي عمود حكم الجولاني وهي عبارة عن الحرس الملكي الخاص بالإضافة لكونها قوات التدخل السريع ، كما أنها قوات الإحتياط التركية (غب الطلب) للتدخل في دول أخرى ولن تسمح تركيا بإلغائهم بسهولة ويصطدم ذلك مع محاولة أبوظبي تفكيك الميليشيات تدريجيا بهدف معلن وهو إعادة بناء الدولة بينما الهدف الحقيقي هو إنهاء الإسلام السياسي قبل أن يشكل تهديداً لهم ، ولكن حسابات الحقل لا تتفق مع حسابات البيدر فالميليشيات التي تحمي الجولاني لا تعرف منطق الدول ولا منطق المصالح وإنما تعرف منطق البيعة فقط ، فالجولاني لا يحكمهم بالقانون، بل بالعقيدة التي التزم بتطبيقها وخروجه عنها تعني خيانته للعهد، لذلك فبقاؤه في الحكم مرهون بمدى التزامه بالعقيدة بما لا برضى العواصم ، وأن محاولة إخراجهم بالقوة ستشعل الداخل السوري مجددًا، وأي

محاولة لانتزاع تلك الميليشيات ستشعل صراعًا جديدًا بين رعاة الأمس وشركاء اليوم وخروجها يعني انهيار سلطة الجولاني في اليوم التالي.
الولايات المتحدة الأمريكية و”إسرائيل”
تتحكم الولايات المتحدة في المشهد السوري وتلعب في كل الإتجاهات ، تدعي أنها ليست حكماً بين الفرق المتصارعة ، تحتفظ بقواعد عسكرية عدة وتتظاهر أنها ليست لاعباً ، لكنها بالتأكيد ليست على مقعد الإحتياط وليست بمتفرج أو حتى من الجمهور ، تدعم تصرفات الكيان الغاصب في كل حركة لا شرعية وفي السيطرة على الجنوب السوري ، تراقب التنافس الروسي–التركي من بعيد وتكتفي بالعقوبات والرسائل الاقتصادية دون أي حضورٍ ميداني مباشر وتعمل في نفس الوقت على الإيقاع بينهما وعلى تذكية الصراعات في كل الإتجاهات ، واشنطن تدرك أن التنافس بين موسكو وأنقرة يخدمها فكلما تورط الطرفان أكثر في المستنقع السوري ازدادت قدرتها على ضبط الإيقاع من الخلف دون أن تحسب ضمن اللاعبين ، وفي نفس الوقت تترك الكيان الغاصب ليقوم بعملها القذر فتحتفظ بما يسمى “الإبتعاد بطول الذراع” وتبقي قريبة بما يكفي للتدخل وتوجيه الضربات حسب اللزوم ، وبعيدة بما يكفي لتنجو من حرارة اللهب ، سياسة يغلب عليها مصلحة “إسرائيل” التي إحتلت “مسافة آمنة” من الجنوب السوري وتتابع المشهد بحذر في أنحاء الجغرافيا السورية للإستشعار بأية تغييرات في السلطة لكي تتدخل مباشرة لقناعتها بأن سقوط الجولاني سيتسبب بفوضى على حدودها، وبقاؤه يعني سلطة دينية متشددة يصعب الوثوق بها مهما أعطت من عهود الخيانة.
تركيا
العلاقة بين الجولاني وأنقرة ليست تنسيقًا عابرًا، بل شراكة وجود فتركيا هي التي دفعت به إلى موقعه الحالي، وتدير من خلف الكواليس تفاصيل الحكم في دمشق عبر واجهاتها السياسية والأمنية، تحاول الظهور كوسيط أو راعٍ لكنها في الواقع الممسكة بمفاتيح القرار الداخلي ، تبقي الميليشيات حية لتستخدمها كورقة ضغطٍ على موسكو، وضمانة لبقائها في أي تسوية مستقبلية ، تركيا ترى الجولاني بأنه الضمان الإسلامي لمشروعها الإخواني العابر، وترضخ لعنجهية “إسرائيل” في سبيل تحقيق ذلك المشروع في إنتهازية صريحة.
جمهورية إيران الإسلامية
إيران “خرجت من المولد بلا حمص” لم تعد لاعبًا في الملف السوري لا ميدانيًا ولا سياسيًا ولا دبلوماسيًا ، وجودها انتهى فعليًا مع تغيّر البنية الحاكمة في دمشق وتراقب من بعيد وتحاول الحفاظ على حضورٍها عبر القنوات الإعلامية والدبلوماسية ، سوريا اليوم خارج دائرة النفوذ الإيراني بالكامل والقرار فيها محصور بين محور روسيا بوجودها الرمزي والعسكري ومحور تركيا بنفوذها الواقعي عبر الجولاني.
إنتهى سباغيتي المتآمرين الأول وظهر سباغيتي المتآمرين الثاني ، لم تعد سوريا دولة تحافظ على مشروع تحرري بل ساحة تدار فيها مشاريع الآخرين ، ويبقى الجولاني الحلقة الأضعف بين القوى السالفة الذكر ومجرد واجهة تدار من الخارج بغطاءٍ دبلوماسي هش ، الجولاني محاصر بين عهد ديني بايع عليه المقاتلون ووصاية سياسية تطوقه من أنقرة وموسكو وواشنطن وأبو ظبي والرياض فلا هو قادر على التمرد على العقيدة، ولا يملك الجرأة ليصطدم بالراعي الذي يمسك بخيوط حكمه ولذلك لا يملك إلا أن يتلوَن ليبقى ، وفي خضم كل ذلك تضيع فكرة الدولة ويتحوّل الحكم إلى إدارة أمنية تدار بالتفاهمات لا بالسيادة دون أن يستطيع كسب الشعب السوري المنهك الذي لا زال ينتظر دولة تعرف اسمها وحدودها وقرارها ، لا تحكم بالفتاوى ولا تدار من الخارج ، وسينتهي الجولاني كما بدأ ، في الظل ، بلا علم ولا نشيد ولن يرتفع اسمه في سماؤها أبداً .
زياد زكريا – عضو الأمانة العامة لمنتدى سيف القدس