القوانين الحديثة: بين الظاهر الجميل والتوظيف الخفي

بقلم: فاتنة علي

في السنوات الأخيرة، شهدنا تغيّراً ملموساً في طبيعة القوانين التي تُسنّ في العديد من المجتمعات، قوانين قد تبدو للوهلة الأولى جذابة وراقية، تحمل عناوين مثل: الحريّة الشخصيّة، حريّة الرأي والتعبير، وقانون مكافحة التنمّر. هذه القوانين، بمظهرها الخارجي، توحي بأنها تهدف إلى حماية الإنسان وتمكينه من حقوقه، لكنها، عند التعمق في تطبيقها، كشفت عن استخدامات مزدوجة قد تؤثر سلباً على القيم والأخلاق والمجتمع بشكل عام.

الحريّة الشخصيّة: من حق مقدّس إلى أداة توظيف

الحريّة الشخصيّة قيمة مقدّسة، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحق الإنسان في دينه ومعتقده وممارسته لما يراه مناسباً في حياته. فهي، وفق الكتب السماوية، حق محمي ومقدّس، لكن ضمن ضوابط أخلاقية واضحة: فالقرآن الكريم يحث على الاستقامة والاعتدال في كل سلوك، ويقول: “ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن”، في تذكير بأن الحرية لا تعني الانحلال أو الإساءة للنفس أو للآخرين.

لكن في واقعنا المعاصر، تم توظيف الحريّة الشخصيّة أحياناً لتبرير سلوكيات تتعارض مع الأخلاق والقيم الاجتماعية. على سبيل المثال، أصبح بعض الأفراد يستخدمون حرية اختيار اللباس أو المظهر الخارجي كذريعة للتصرف بشكل متجاوز للحدود الاجتماعية أو الأخلاقية، في حين أن الهدف الأصلي من الحرية كان تعزيز كرامة الفرد وحقه في الاختيار دون الإضرار بالآخرين.

مثال واقعي: في بعض الدول الغربية، تم استخدام قوانين الحريّة الشخصيّة لتبرير الظهور العلني للممارسات الجنسية غير التقليدية، مما أثار جدلاً واسعاً حول تأثير ذلك على القيم المجتمعية والأخلاقية.

حريّة الرأي والتعبير: بين الحق الطبيعي والإساءة المبرّرة

حريّة الرأي والتعبير أيضاً حق مقدّس لكل إنسان، يسمح له بالمشاركة في القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بحرية. وقد جاء في الإنجيل تعليم واضح: “كل كلمة تُقالوا بها كونوا صادقين ومحترمين”، أي أن التعبير عن الرأي يجب أن يكون مسؤولا ويحترم كرامة الآخرين.

لكن أحياناً، تُوظف هذه الحرية لتبرير التجاوزات اللفظية، الشتائم، والتحقير من الآخرين. كمثال، بعض مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي يختبئون خلف شعار “حرية التعبير” لنشر محتوى مسيء أو تحريضي ضد فئات معينة أو لتهويل الحقائق. هنا تتحول الحرية من وسيلة للتنوير والنقاش البناء إلى ذريعة للسفاهة والتجريح، ما يهدد النسيج الاجتماعي ويضع المجتمع في حالة من الفوضى الأخلاقية.

مثال واقعي: في بعض الدول الغربية، تم استخدام قوانين حرية التعبير لتبرير نشر محتوى عنيف أو تحريضي ضد مجموعات دينية أو عرقية معينة، مما أدى إلى تصاعد التوترات الاجتماعية.

قانون مكافحة التنمّر: حماية مزيفة أم أداة سياسية؟

قانون مكافحة التنمّر، كالقوانين السابقة، يحمل عنواناً جذاباً يوحي بحماية الفرد من السخرية أو الاعتداء النفسي أو الجسدي. وفي النصوص الدينية، نجد توجيهات تحض على احترام الآخرين: فالقرآن يقول: “ولا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم”، ما يشير إلى أهمية حماية الفرد من السخرية والتهكم.

لكن هذا القانون في كثير من الحالات استُخدم سياسياً لحماية المسؤولين والحكام، ولمنع النقد الاجتماعي والسياسي الصريح. كمثال، قد يُقدّم القانون عقوبة لمن ينتقد أداء مسؤول حكومي علنياً، بينما يغض الطرف عن فساد المسؤول نفسه، فتتحوّل العدالة إلى أداة ضغط وخوف.

مثال واقعي: في بعض الدول، تم استخدام قوانين مكافحة التنمّر ضد الأفراد الذين ينتقدون سياسات الحكومة أو أداء المسؤولين، مما أدى إلى تقييد حرية التعبير وتعزيز القمع السياسي.

أمثلة واقعية على التوظيف الخفي

الحريّة الشخصيّة: استخدام حرية اللباس أو التوجه الجنسي كذريعة لتجاوز القيم والأعراف، ما يبرر سلوكاً مبتذلاً أو مخالفاً للمجتمع، تحت شعار “اختيار شخصي”.

حرية الرأي والتعبير: إساءة استخدام المنصات الاجتماعية لنشر أفكار تحض على الكراهية أو التقليل من قدر الآخرين، بينما تُمنع أي انتقادات سياسية جدية.

قانون التنمّر: حماية كبار المسؤولين أو الحكام من النقد، بينما تُسجن الأفراد العاديين بسبب انتقادهم للسياسات أو القرارات.

الوعي الفردي: السد المنيع أمام التوظيف المزدوج

رغم كل هذا، يبقى الحل في الوعي الفردي والمجتمعي. الفرد، حتى لو كان تأثيره محدوداً، هو نواة تغيير، والوعي بالقوانين وأبعادها الحقيقية هو الخطوة الأولى لمنع استخدامها بطريقة خفية أو مضللة. يجب على كل مجتمع أن يسعى لفهم القوانين، تمييز ما هو حق مشروع وما هو تحايل على القيم الأخلاقية والدينية، ومساءلة من يستغلها.

في النهاية، الحريّة الشخصية، حريّة التعبير، وقوانين مكافحة التنمّر ليست شرّها في الجوهر، لكن استخدامها الخفي والمزدوج قد يحوّلها إلى أدوات للتحكم، القمع، وتغيير المجتمع بعيداً عن أخلاقه وعاداته. يبقى الأمل دائماً في وعي الإنسان، لأن الفرد الواعي هو جدار الصدّ أمام كل محاولات التوظيف السياسي والأخلاقي الخفي.