رمى بالعصى… رثاء السنوار

ألا كم كريمٍ عدَّه الدهرُ مُجرِما
‏فلمَّا قضَى صلَّى عليه وسلَّمَا

‏أبو القاسمِ المنفِيُّ عن دارِ أهلِه
‏وموسَى بنُ عمرانٍ وعيسَى بن مَريمَا

‏أتعرفُ دينًا لم يُسَمَّ جريمةً
‏إذا ضبطَ القاضي بها المرءَ أُعدِمَا

‏صَليبٌ وقتلٌ في الفِراش وعسكرٌ
‏بمصرَ وأُخدودٌ بنجرانَ أُضرِمَا

‏وطفلٌ وديعٌ بين أحضانِ أُمِّه
‏يراوغُ جَيشًا في البلادِ عَرمرَمَا

‏وقلَّ نبيٌّ لم تلاحِقْه شُرطةٌ
‏وأشباهُها في كلِّ دهرٍ تصرَّمَا

‏فمِن جوهرِ التوحيدِ نفيُ ألوهةِ ال
‏مُلوكِ؛ لذا ما زالَ دينًا مُحرَّمَا

‏ولم يُؤمنِ الأملاكُ إلا تَقيةً
‏وفي المُلك شِركٌ يُتعبُ المُتكتِّمَا

‏وفرعونُ والنُّمرودُ لم يَتغيَّرَا
‏بقَرنينِ أو رَبْطاتٍ عُنْقٍ تهنْدَمَا

‏ونحنُ لعَمري نحنُ منذُ بدايةِ ال
‏خَليقةِ يا أحبابَنا وهُما هُمَا

‏نعظِّمُ تاجَ الشَّوكِ في كلِّ مرةٍ
‏ولسنا نرَى تاجًا سواهُ مُعظَّمَا

‏ونرضَى مِرارًا أن تُرضَّ عِظامُنا
‏عَطاشَى ولا نرضَى دَعِيًّا مُحكَّمَا

‏مُسيَّرةٌ في شُرْفة البيتِ صادفَتْ
‏ جريحًا وحيدًا يَكتسِي شطرُه دَمَا

‏قد انقطعتْ يُمناهُ وارتُضَّ رأسُه
‏فشدَّ ضِمادًا دونَه وتعمَّمَا

‏وأمسكَ باليُسرَى عصًا كي يرُدَّها
‏فكانتْ ذُبابًا كُلما ذُبَّ حوَّما

‏وما أُرسلَتْ إلا لأنَّ كتيبةً
‏من الجُندِ خافتْ نِصفَ بيتٍ مُهدَّمَا

‏وقد وجَدُوه جالسًا في انتظارِهم –
‏أظنُّ – ومِن تأخيرِهم مُتبرِّمَا

‏ولو صوَّرتْ تحتَ اللِّثامِ لصَوَّرتْ
‏فتًى ساخرًا ردَّ العُبوسَ تبسُّمَا

‏تلثَّمَ كي لا يَعرفُوه لأنَّهم
‏إذا عرَفوه فضَّلوا الأَسْرَ رُبَّمَا

‏ولو أسَرُوه قايَضُوه بعُمرِه
‏لِذاكَ رأى خَوضَ المنيَّةِ أحزَمَا

‏فلم يتلثَّم كَي يَصُونَ حياتَه
‏ولكنْ لزُهدٍ في الحَياة تلثَّمَا

‏فقُل في قِناعٍ لم يُلَثْ لسَلامةٍ
‏ولكنْ شِعارًا في الحُروب ومَعلمَا

‏وقُل في جُموع أحجَمتْ خوفَ واحدٍ
‏وفي جالسٍ نحوَ المُشاةِ تقدَّمَا

‏أتى كُلَّ شيءٍ كي يَسُوء عدُوَّه
‏ولم يأتِ شيئًا في الحَياة ليسلَمَا

‏رمى بالعَصا جيشَ العَدُو وصيةً
‏لمَن عِنده غَيرُ العِصيِّ وما رمَى

‏رمَى بالعَصا لم يَبقَ في اليدِ غيرُها
‏ومَن في يديهِ العَسكرُ المَجْر أحجَمَا

‏غدا مَضرِبَ الأمثالِ منذُ رمَى بها
‏لكلِّ فتًى يحمِي سِواهُ وما احتمَى

‏جُلوسًا على الكُرسيِّ مثلَ خليفةٍ
‏يُبايعُه أهلُوه في الأرضِ والسَّمَا

‏فذلكَ عرشٌ يَرتضِيه ذَوو النُّهَى
‏وذاكَ إمامٌ قِبلةَ السَّعدِ يمَّمَا

‏هُنا يُصبحُ الإنسانُ دينًا مُجرَّدًا
‏ويُصبحُ دينُ الناسِ شَخصًا مُجسَّمَا

‏أتعرفُ؟ إنَّ الموتَ راويةُ الفتَى
‏يقولُ لحقٍّ أمْ لباطلٍ انتمَى

‏يعيشُ الفتَى مَهما تكلَّم ساكتًا
‏فإن ماتَ أفضَى موتُه فتكلَّما

تميم البرغوثي