أين نحن وماذا بعد؟

ثمة من قد يتساءل أين نحن، بالضبط وبالتحديد، بالبلد وبالمنطقة، في هذا التوقيت وضمن هذا السياق، ثم ماذا بعد؟ هي أسئلة مشروعة، تحتاج إلى الإجابة عنها والرد عليها، أو المحاولة على الأقل.
فما يشهده الإقليم مؤخرًا وراهنًا هو عبارة عن تغيير كبير وعظيم وعميق. أو لنقل إنه تغيير دراماتيكي وراديكالي، لا مثيل له، ولا نظير له، منذ ما يزيد عن قرن من الزمن، بما فيه الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية. فأين نحن في هذه المتاهة؟ وماذا بعد هذا المخاض؟
فلسطين ما بين العدوان ووقف إطلاق النار
هي لحظات دقيقة، إنما يعيشها القطاع، ويشهدها الإقليم والعالم بأسره، ما بين انتهاء العدوان الإسرائيلي، الذي استمر نحو سنتين تقريبًا، ثم دخول وقف إطلاق النار أخيرًا حيز التنفيذ والتطبيق.
وهو يبقى رهنًا بمدى جدية مثل هذا الإتفاق، ومشروطًا بمدى إلتزام “إسرائيل” به، وبالتالي بمدى إمكانية إستمراره وديمومته، بمعنى التمهيد والتأسيس لحل طويل الأمد وبعيد المدى، ولا نقول إنه مستدام، مع انعدام أية فرصة لقيام الدولة الوطنية الفلسطينية، بحسب صيغة الدولتين.
وثمة ملفات عدة، من لبنان، مرورًا بسوريا، وصولًا إلى العراق، وانتقالاً إلى اليمن، وليس انتهاء بإيران، هي لم تصل إلى خواتيمها! هي لم تنتهِ بعد في فلسطين المحتلة، ما بين الضفة والقطاع، بل وحتى في غزة!
هذا ويفرض نفسه تدهور وانهيار الأوضاع الإنسانية والإجتماعية والمعيشية في غزة، مدينة وقطاعًا، على الجميع في الداخل والخارج على حد سواء، من الفلسطينيين إلى المجموعتين العربية والإسلامية، كما المجتمع الدولي.
إسرائيل قامت بتدمير كل شيء هنا: البيوت، المنازل، المستشفيات، المدارس، الجامعات، الأبنية السكنية، الأحياء والشوارع. وهي قامت بوأد كل مظاهر الحياة في غزة، إلى أن بات القطاع مكانًا غير قابل للحياة، ولا حتى العيش.
لكنها، مع ذلك، وبالرغم من كل هذا الخراب وهذا الدمار، لم تتمكن من القضاء على المقاومة بالكامل، ومن اقتلاعها ومن اجتثاثها، حتى وإن كانت الأخيرة غير قادرة على الإستمرار في القطاع، أو بالأحرى الإدارة للقطاع بعد وقف إطلاق النار. هذا بحال استمر سريان وقف الأعمال العدائية، ولم ينهار.
كذلك، ثمة أسئلة تُطرح عن الوضع الأمني للقطاع عمومًا، والوضع العسكري للمقاومة خصوصًا، ومعهما، بل قبلهما حتى، الإدارة السياسية والمدنية لتلك المنطقة. وربما نكتفي هنا بإيراد عدد من هذه الأسئلة:
هل ستعيد المقاومة ترميم نفسها، بعد التقاط أنفاسها واستجماع قواها، أم تغادر القطاع، أم تكتفي بالتنحي عن إدارته؟ هل ستكون إدارة القطاع مشتركة، فلسطينية – عربية – إسلامية، وتبقى مدنية وسياسية، أم تشارك وتساهم بها قوى أجنبية، وربما غربية؟
هل ستبقى هذه المشاركة أو هذه المساهمة مدنية، أم تصبح أمنية، وربما عسكرية؟ وهل تصمد هذه الخطة للسلام، أم تبقى مجرد هدنة؟ وهكذا يبدو الأفق غامضًا، لدى تقدير الموقف لاستشراف المستقبل القريب غير البعيد.
لبنان ما بين الجولة الأولى واحتمال الجولة الثانية من العدوان
بالعودة لحرب العدوان السنة الماضية، مما لا شك فيه المقاومة في لبنان تلقت ضربات قوية وصفعات قاسية. وهذا الأمر لا نقاش فيه بطبيعة الحال.
إلا أن إسرائيل لم تحسم الموقف على خط المواجهة مع لبنان، لا سيما المقاومة في لبنان. وهذه الحرب لا تقع في خانة الإسناد فحسب، وإنما هي تندرج في سياق المواجهة المفتوحة بين “إسرائيل” ولبنان وضمن إطار العدوان المستمر والمتواصل من قبل “إسرائيل” على لبنان.
هذا للتاريخ وللإنصاف وللأمانة. المشكلة بين لبنان وإسرائيل كانت، ولا تزال، قائمة. هي لم تنتهِ بعد. وهي سابقة لإسناد غزة، ولاحقة أيضًا. كما أنها سابقة لوجود المقاومة السياسي وصعودها التاريخي في لبنان.
بهذا المعنى، تبدو الأمور عالقة أو معلقة، ما بين إسرائيل ولبنان، وذلك حتى إشعار آخر. نعم، هذه هي الحقيقة، وهذا هو الواقع.
وعليه، قد تكون حرب لبنان الثالثة سنة ٢٠٢٤، ربطًا بحربي لبنان الأولى والثانية سنة ١٩٨٢ وسنة ٢٠٠٦، بحسب الأدبيات الإسرائيلية، بمثابة الجولة الأولى من العدوان، وذلك مع احتمال اندلاع الجولة الثانية من العدوان مجددًا، ربما لاحقًا أو قريبًا.
وتجدر الإشارة إلى أن تجدد العدوان على لبنان يرتبط بمخطط “إسرائيل” بخصوص إيران ولا ينفصل عنه، وباحتمال تجدد العدوان هناك.
وقد يسبق اعتداء تل أبيب على طهران اعتداءها على بيروت بالتوقيت وساعة الصفر لشل قدرة المقاومة في لبنان على الصمود والإستمرار والبقاء، لدى الإنقضاض ومحاولة الإطباق عليها هذه المرة.
إيران ما بين العدوان الأول واحتمال العدوان الثاني

الجدير ذكره أن عدوان “إسرائيل” الخاطف والغادر، ومعها أميركا، على إيران توقف، دون أن تنتهي حالة الحرب المستمرة والمتواصلة، والمرشحة لأن تبقى مفتوحة، ولأن تفتح الباب وتفسح المجال أيضًا للعدوان الجديد والمتجدد، الأميركي – الإسرائيلي، على إيران، إذ لم يفضِ العدوان السابق إلى نتائج حاسمة، تكون نهائية للبناء عليها بالمنطقة والعالم.
قد تكون الجولة الأولى، أي الجولة السابقة، بمثابة تجربة واختبار للقوة ولميزان القوة، بين تل أبيب وواشنطن من جهة، وطهران من جهة أخرى.
لقد تضررت إيران، وكذلك إسرائيل. وقد حجزت الأولى لنفسها، أقله حتى حينه، مقعد ما في قطار الترتيبات الإقليمية الجديدة، على حساب الثانية، أو لنقل بالأحرى على حساب طموحاتها وأطماعها الإقليمية.
من هنا، لا بد من التذكير بأن إيران باتت بدائرة التهديد والخطر بعد هذا العدوان أكثر من أي وقت مضى قبله. وهي قد تكون عرضة للإعتداء عليها في أية لحظة.
فمن وجهة النظر الأميركية – الإسرائيلية، إن تسديد ضربة، وربما ضربات، قاسية وقاسمة لإيران، من شأنه أن يقود، حكمًا وحتمًا، إلى تدمير وتحطيم الردع والتوازن الإقليميين بالتالي وبالتبعية.
لنكن واقعيين ومنطقيين: لم ينتهِ مخاض ولادة النظام الإقليمي الجديد. لا يزال الإقليم في قلب الحدث، بل إنه على وشك الإنفجار وعلى شفير الهاوية.
لا يزال هناك العديد من الأحداث بالمستقبل القريب غير البعيد. الأمر يحتاج إلى المزيد من الوقت: ربما سنة، أو أكثر، وربما سنتين. وعليه، من غير الواقعي ومن غير المنطقي الإعتقاد بأن الستاتوكو شارف على الإنتهاء.
لا يجوز الدفع باتجاه مثل هذا التفكير، أقله حتى تاريخه؛ ولا يجوز بناء الخيارات والرهانات المستقبلية على هذا الأساس. مما يعكس قراءات ومقاربات وحسابات وتقديرات غير دقيقة وغير موفقة، وبالتالي خاطئة.
الميادين