الأكيد أن محور المقاومة بما في ذلك حركة حماس لم تكن لديه تقديرات قول بإمكانية الذهاب إلى حرب المنازلة الشاملة مع كيان الاحتلال، وأن طوفان الأقصى لم يكن مبنياً على حسابات نجاح بحجم ما تحقق وردود أفعال بحجم ما ترتب، وأن جبهة إسناد لبنان التي شكلت الجبهة الأهم لعلاقتها المباشرة بمفهوم التهديد الوجوديّ بعقيدة الأمن الاستراتيجي الإسرائيلي وقربها الجغرافي وحجم مقدرات المقاومة في لبنان، كانت محاولة للمساهمة في خلق تعقيدات إضافية لكيان الاحتلال تدفعه نحو الحل التفاوضي بمثل ما كانت حسابات الطوفان، والأكيد بالتالي أن ما ذهب إليه الاحتلال سواء بنسبة التوحش غير المسبوق وغير المتوقع في غزة، أو ما كشف عنه من استعداد لحرب كبرى ضد المقاومة في لبنان، فاجأ قوى المقاومة فما هو السبب؟
– كما كان التقدير الإسرائيلي قائماً على استبعاد لجوء المقاومة في غزة إلى عملية بحجم الطوفان مبنياً على مفهوم الردع، والثقة بأن ما لدى “إسرائيل” من قوة نارية يكفي لمنع تعرضها لمثل ما تعرضت له مع طوفان الأقصى، كانت المقاومة تثق بأن ما لديها من قوة ردع سوف يشكل سقفاً لحدود الاستخدام الإسرائيلي للقوة النارية، وقد جاءت الحرب وأسقطت فرضيات الطرفين، لكنها على مستوى قوى المقاومة أظهرت خللاً في النظر لزاويتين في النظر للاحتلال، الزاوية الأولى المبالغة بالثقة بحجم قدرة المقاومة على استخدام ما لديها من قدرات في حال الحرب، خصوصاً في لبنان، في ظل ترتيبات كان يُعدّها الاحتلال لحرب قادمة يبادر إلى شنها وفقاً لتوقيته، فعملية البيجر واللاسلكي لم تكونا نتاج لحظة الحرب بل حاصل إعداد وتحضير مسبقين، وكذلك عمليات اغتيال القادة وصولاً للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، وكل ذلك كان نتاج عمل استخباريّ معقد ومتقن يستثمر على تفوق تكنولوجي لم تقم له المقاومة حساباً كافياً، وبقدر ما كان فتح جبهة الإسناد اللبنانية مدخلاً لتفعيل الاحتلال أوراق قوة نائمة لديه تسببت بخلل فاضح في موازين القوى وحالت دون تفعيل المقاومة لما كانت تثق بأنه كافٍ لتحقيق الردع، لا بد من الاستنتاج طالما أن خطط الحرب كانت على الطاولة فإن جبهة الإسناد حمت المقاومة من ضربة مفاجئة شاملة، بحيث تسنى للمقاومة أن تقف على الحدود الأمامية لجنوب لبنان كما فعلت بصورة أذهلت العدو والأصدقاء، أما الزاوية الثانية في خطأ المقاربة أو عدم وضوحها على الأقل، فهي المدى الذي يمكن للاحتلال أن يصل إليه مع تشخيصه لما جرى كتهديد وجودي داهم، يلاقي النقطة التي تقول فيها العقيدة النووية الإسرائيلية باستخدام السلاح النوويّ، فكيف باستخدام كل ما هو دون ذلك بالأحرى؟
– الفرضية الثانية التي كانت حاضرة في خلفية تفكير قوى المقاومة عن حجم ما يمكن أن تقوم به حكومة الكيان وجيشها لم يكن نابعاً من وهم يفترض بها استسهال التسليم بالهزيمة بينما بين يديها أوراق قوة قابلة للاستخدام، بقدر ما كان حاصل اعتقاد أن حرباً بوحشية الحرب التي رأيناها لا يمكن أن تستمر لشهور دون أن تنهض قوى ودول عالمية مثل روسيا والصين لاستغلال هذا الوضع ومحاولة فرض حلول تسووية تؤكد شراكة هذه الدول ومثلها أوروبا في صناعة الأمن الإقليمي في المنطقة الأهم في العالم، بل إنه كان يصعب تصديق إمكانية حدوث مثل هذه الحرب الوحشية على امتداد زمني لسنتين دون أن تتحرّك الدول العربية والإسلامية، سواء أصدقاء أميركا بممارسة الضغوط عليها، كما فعل الملك فيصل في حرب 1973، أو الذين يتطلعون للعب أدوار إقليمية مثل تركيا والمعنيين بأمنهم الإقليمي مثل مصر والأردن وحتى سورية الحليفة الي بقيت خارج الحرب حتى سقوط النظام فيها، بحيث ثبت أنه في حال تهديد وجودي إذا فقدت المقاومة قدرة استعمال قدراتها الرادعة فإن الاحتلال يستطيع أن يفعل ما يشاء دون أن يجد من يسائله أو يردعه أو يضغط عليه.
– المفاجأة التي لم يكن في حساب قوى المقاومة حدوثها كما حدثت، تمثلت بالسقوط السريع والمفاجئ للنظام الحليف في سورية، بحيث إن النظام لم يظهر أي مقاومة لمحاولة إسقاطه، وبعد معركة جزئيّة خاضها بعض الضباط والجنود في حلب ثم في حماة تساقطت المواقع في صيغة أقرب للتسلم والتسليم، وحدوث هذه المفاجأة التي شكلت أبرز الإنجازات الاستراتيجية للحلف الأميركي الإسرائيلي، تمّ بتعاون تركي عربي ودون جهد روسي جدي لمنع حدوثها، بصورة معاكسة لما يفترض أن تقوله التهديدات التي يمثلها تسليم الأميركي والإسرائيلي مفاتيح الأمن الإقليمي من بوابة سورية، سواء بأوهام تحقيق مكاسب تكتيكية على إيران وقوى المقاومة بالنسبة لتركيا والعرب، أو بوهم القدرة على التأقلم مع الوضع الجديد بالنسبة لروسيا، لكن الأهم هو ما أظهرته هذه المفاجأة الاستراتيجية الكبرى من خطط استخبارية وتكنولوجية جاهزة للتفعيل لدى الحلف المناوئ لقوى المقاومة.
– كما سقطت الفرضية الإسرائيلية القائمة على الاعتقاد بأن قطع الرؤوس سوف يسقط جبهات القتال البري، وسقطت فرضية الرهان على أن الحرب على إيران يمكن لها الفوز بتدمير قدرات إيران الصاروخية وجلبها إلى التفاوض على عقد إذعان وفتح مسار إسقاط النظام، وجاءت مفاجأة اليمن من حيث لم يقم الأميركي والإسرائيلي الحساب، كذلك سقطت فرضية المقاومة بالوثوق بالقدرة على تفعيل قوة الردع، وسقطت فرضيتها باستحالة قدرة الاحتلال على حرب مفرطة في التوحش دون أن يستنهض ذلك حراكاً دولياً جدياً لوقف الحرب أو يستنهض تدخلات وتفاعلات في الجوار العربي والإسلامي، وفاجأها سقوط سورية السريع والمريع معاً.
ناصر قنديل