هل ستبقى المنطقة على رمال متحركة غير قابلة للضبط الاستراتيجي؟هل سنعبر إلى مستقبل أفضل لتأمين نهوضنا وبالتالي استقرارنا؟هل ما يحصل يمكن أن نصنفه ضمن الواقعية المبدئية؟ أم بقائنا في الضبابية الوسطى للبراغماتية ستأخذنا إلى العدم، و ستفتح علينا أبواب رخوية انتهازية البعض؟ هل هذا مصرينا إلى أجيال أخرى ستحسن وسائل الصراع وستتقن المبدئية الصلبة ؟ وهل يمكننا القفز على ألغام التحدي ونسيان المبدئية الصلبة؟ أسئلة كثيرة ستطرح ما بعد الطوفان .
صحيح أن المهمة صعبة، لكن لا يزال الاختبار مفتوح في قلب منطقة تاريخ الحضارات. رغم التوقيت الصعب الذي تم دون دراسة لارتداداته، حيث خطوط الضغط العالي للمصالح الدولية التي كشفت أنها تغطي العالم برمته. يبقى الأمل مقرون أكثر بالاقتدار الممكن الذي يمكن أن يغير مجريات الأحداث بسواعد الأحرار.
رغم ضيق الهوامش، والاخاديد الحادة تبقى فواصل ما كتب بالقاني هي المحددة للمسارات، وهي التي تكشف لنا مكامن الشيطان، ومكائده كدالة تعكس لنا حقيقة واقعية المبدأ. لانها ملحمة حيوية تتدخل في تغيير مجريات التاريخ. والقاني هو المدد الوحيد الذي سيفرض علينا واقع جديد لتغيير دواخلنا السياسية، والاخلاقية، والمعنوية لبناء سمت الانتماء الموافق لمصالحنا الجيو استراتيجية.
التاريخ لن يرحم من يقفز على هذا الزخم من العطاء، الذي اختلط فيه الدم بتراب عاملة، وصعدة، وغزة وبلاد الري، وارض دجلة، وسقطت فيه قامات جليلة من الشهداء يصعب ايجاد بدائلها في القريب العاجل، وما لم نستوعب درس المرحلة بمراجعة ما حصل لتحصين الصفوف لن نكونا اوفياء، ولن يكتب لنا في الاقدار أننا يمكن ان ننتصر على شعب الله المحتار.
ككل مرة كانت المعركة الاعلامية خاسرة لولا جهود طيف من الشباب العابر، تحرك على إيقاظ فطرة الانسان .

كان هذا الكم الهائل من التفاصيل موجه ومقصود لتسفيه عقول المتابعين حتى وقع أغلبنا في خدعة المعلومة وسقط البعض منا في التحليل دون ادراك وسائل الاستشراف، وهو من مزالق المعركة، واشدّها على تزييف الوعي، وتحريف معانى الثبات والمقاومة.

كانت خططهم مدمية بوسائل متعددة، والاعجب ان هذه المرة كان اغلبها يخاض بالافتراضي، ويدار بالخوارزميات، وينفذ بالذكاء الاصطناعي، حتى غلبت سرديتهم حصون واقعنا العربي المهترئ. حتى كان اغلب ما ينشر من مصادر تحت سيطرة الإعلام المعادي، منها اخبار الانجازات وبعض الانتصارات لتترك في ذاكرة شعوبنا اثار وخيمة، سنجني نتائجها السلبية في معارك مصيرية اخرى قادمة .كل الحروب التي تستهدف ذاكرة المجتمع اثارها طويلة، لان نتائجها استراتيجية، وهي مكلفة للغاية.

اما ما فعله المحور، أنه حاول خلق حالة غير مسبوقة من اسئلة المصير، ولايزال الجميع ينتظر إجابات عنها. كان من المؤكّد أننا، في لحظة ما، ستنتهي المعركة ولكن الحرب لا. لانها بمقاسات التغيرات الجيو استراتيجية.
لم تعد النظرة مجدية إلى ما قبل السابع من أكتوبر ، إلاّ بحكمة قراءة ما حدث ومراجعة سلبيات المعركة لمراكمة الانجازات للدفع نحو الاحسن. كان من المهم استعجال الطوفان قبل ان ينطلق مشروع الصهاينة والغرب على حين غفلة ليردي الاغلب في اتون الصدمة.
في هذه الحرب نزع صفة الإنسانية من سياسيي الغرب حتى أصبح جزء من المناخ الإعلامي لوسائلهم التي شرعنت للقتل الجماعي للمدنيين، واللامبالاة التامة تجاه النظام العنصري الصهيوني، وصارت من مكونات التبجح لعقليتهم السائدة.
كانت جرائم الصهاينة في قطاع غزة غير متناسبة مع حجم ردة فعل عملية طوفان الاقصى، ومع أن الكيان من تخصصه الاستفادة من هذه الفجوات، لكن هذه المرة الهوة كانت سحيقة لم يسبقها الا نزيف نكبة 48 .
يبقى المكسب المهم في حقل الصورة التي شهدناه بين شعوب العالم كيف سيكون لها أثارا رمزية موغلة في النفوس واستراتيجية عميقة في رسم مستقبل القضية الفلسطينية والعدالة الانسانية ؟ هل سنستطيع استثمار الحدث للازمات القادمة ؟ من الاكيد ان المقاومة في جولاتها القادمة سيكون من السهل عليها دحر الدعاية الصهيونية وتسويق ما تريده، فقد اسقط الطوفان سردية دعاية الصهيونية لدى الرأي العام الدولي، واحتضن المجتمع المدني العالمي قضية فلسطين بوصفها معركة تحرر وطني تمارس دفاعا مشروعا اخلاقا وقانونا. لكن كيف يمكن لنا ان نحافظ على هذا الزخم بل وتفعيله؟
عامان على الطوفان، وطوفان من التضحيات ستترك لنا أسئلة كبرى تلقي بظلّها الثقيل علينا سيحتاج العالم لتطوير إجاباتها. ويجب ان ننبش في جوف الممكنات واحتمالات تغيير معركة الوعي داخل مجتمعاتنا التي تبين انها هزيلة جدا، لا فرق فيها بين سياسيين، ومثقفين، وعامة الشعب. اما الخارج فقد كان المفاجئة، وفطرة الميول للحق انتصرت، من الضروري تشبيكها .

اخرجتنا لحظة الطوفان، مرة واحدة إلى لحظة العالم الانساني، ومن زمن تسطيح القضية الفلسطينية لتصفيتها الى تأصيل عالميتها ، ليس مهم الان ان كانت لحظة الخروج دقيقة ومدروسة. ويجب ان لا يبقى الجدل مستمراً فيها لان حجم القاني الذي قدم اصبح لونه انساني عابر، وحرك ما في النفوس دون حدود .
رغم آليات المواجهة التي كانت غير متناظرة فقد عمل المحور بفعالية الممكن . كان يعلم منذ البداية أن المواجهة لن تكون محدودة ، لذلك لم يراهن على سباق الضربة القاضية بل بمراكمة مؤشرات الاستنزاف الكيفي، ركّز على عناصر الصمود.
المهم الذي كشف في المعركة وبدأ يتضح في اكثر من جغرافيا. ان الغرب بشقه الناتوي، والصهيوني والاعربي وبقيادة الويلات المتحدة الامريكية لا يريد فقط نزع سلاح المقاومة، بل يريد إنهاء فكرة المقاومة، واسقاط حصن طهران الداعم الاساسي لهذا النهج.
الايام القادمة مصيرية اكثر مما يتصور، سنعرف فيها هل معركتنا كانت نكبة جديدة ام نهضة قيام، ومستوى اليقظة بوعي فيها مطلوب للغاية, لمعرفة مجريات الاحداث .
ورضوان الله على كل شهدائنا الابرار .
حسن فضلاوي