غزّة تهزم الإبادة… باقون

أُعلن وقف إطلاق النار ليلاً في غزّة، كأنّ الليل وحده قادر على احتواء هذا القدر من الألم. لم تُضَأ الشوارع، لأنّه لا شوارع باقية، وكذلك الكهرباء. لم تُفتح النوافذ لأنّ البيوت مُسِحت، ولم يعل صوت الزغاريد لأنّ ما تبقّى من الأصوات مُنهك بالصراخ.
في غزّة لا ينام الناس، لكن الجسد المُنهك يُجبر العيون على السكون من دون أن يكون موجودًا. يختبئون داخل خيام متهاوية، ينتظرون أن يستيقظوا على محرقتهم، وهم يعرفون أنّ موتهم مؤجّل، يتمنون أن يكون أقلّ وجعاً فقط.
توقّف القصف، لكن الخوف ما زال يملأ الصدور. تحت ركام الحياة، خرج الصحافيون بأجسادٍ مُتعبة ووجوهٍ مغطاة بالغبار، يحملون هواتفهم المُكسّرة بدل الكاميرات. لم يخرجوا لتوثيق هدنة، بل لتأكيد أنّهم ما زالوا أحياء. أصواتهم المبحوحة كانت صرخة ضدّ النسيان: “نحن هنا باقون… رغم كل شيء”.

لم يخرج الصحافيون في غزّة لتوثيق هدنة، بل لتأكيد أنّهم ما زالوا أحياء

الخبر الذي بثّته الشاشات بدا كراية تُرفع فوق مقبرة. الأمم المتحدة تقول إنّ غزّة عاشت مجاعة، والقانون الدولي يسميها إبادة، لكن الواقع في غزّة أعنف من الكلمات. هناك، لا معنى للهدنة إلا أنها محاولة للنجاة المؤقّت. حين وصل النبأ، سجد بعض الناجين، لا شكراً على النصر، بل لأنهم مُنحوا مهلة مؤقّتة للتنفّس.
أمّا نحن، خلف الشاشات: بكينا. لم نجد في الخبر فرحاً، بل وجدنا وجعاً مؤجّلاً. نعرف أنّ ما أُعطي لأهل غزّة ليس حياة، بل هدنة على حافة الفناء. 
غزّة اليوم ليست مدينة، بل مساحة من الرماد. بيوت أُبيدت، ومستشفيات تحوّلت إلى ساحات للموت، ومدارس غدت ملاجئ خاوية من الأمان. آلاف الشهداء، آلاف المفقودين، وناجون يبحثون بين الركام عن بقايا وجوهٍ وذكريات. في المخيّمات، أطفال يرتجفون جوعاً وبرداً، ونساء مُثقلات بالوجع نفسه.

ما أُعطي لأهل غزّة ليس حياة، بل هدنة على حافة الفناء

ورغم كلّ شيء، ثمّة ما لا يُقهر في غزّة. ثمّة رجلٌ يرفع خيمة جاره المُمزّقة، وامرأةٌ تُشعل شمعة في العتمة، وطفلٌ يضحك رغم الجوع. أولئك لا يعيشون كما نعيش، بل كما يقاتل الجسد للبقاء حيّاً بعد نزفٍ طويل.
العالم الذي هلّل لوقف النار لا يُدرك أنّ الحرب لم تنته. الحصار باق. الركام باق، والمياه الملوّثة تروي العطش والوجع معاً. هدنة لا توقف الموت البطيء، بل تُعيد تشكيله بلون جديد من الصمت

.
سجد بعض الناجين، لا شكراً على النصر، بل لأنهم مُنحوا مهلة مؤقّتة للتنفّس

س
غزّة لم تنكسر، لكنها لم تعد كما كانت. تحوّلت إلى ضمير يؤرق كلّ من يتحدّث عن الحرية ويمرّ على موتها صامتاً. في كلّ حجر مُهدّم هناك سؤال للعالم: ما جدوى الإنسانية إذا كانت عاجزة عن إنقاذ إنسان واحد؟
الليل الذي حمل خبر الهدنة لم يحمل وعداً بالغد. كان صامتاً كقبر جديد، ثقيلاً كرائحة البارود. ومع ذلك، في قلب هذا الصمت، يتمسّك الفلسطينيون بالحياة. 
إنّها هدنة الرماد، لا أكثر. فحين يسكت القصف، يبدأ طوفان الأسئلة، وطوفان الحقيقة التي يحاول العالم تجاهلها؛ أنّ غزّة لم تُمنح فرصة للحياة، بل تعلّقت بحبل النجاة، تمسّكت بغريزة البقاء والاستمرار مهما كان. وهكذا كان الفلسطيني دائماً.

صمود غزال/صحافية فلسطينية لاجئة في لبنان