فلسطين تقود العالم
الأربعاء 2025/09/24
…
– خلال سنتين تحوّلت حرب أوكرانيا التي كانت الحدث العالمي الأول إلى حدث ثانوي، رغم أن الدولتين الأعظم في العالم من حيث القوة والتأثير عسكرياً، أميركا وروسيا بقيت بالنسبة لهما حدثاً أول، لكن فلسطين فرضت حضورها على جدول الأعمال العالمي كحدث غير قابل للتجاهل بداية ثم حدث مفصلي ثم كحدث يقود العالم كما هو الحال الآن، وها هي الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث كل قادة العالم في نيويورك قبل الافتتاح وخلال الافتتاح وبعد الافتتاح لا شيء إلا فلسطين، وكل شيء يدور حول فلسطين وكل حديث لا تحضر فيه فلسطين تافه وبلا قيمة.
– لو كان هذا الحضور إلى حجم إدراك قادة العالم لأهمية هذه القضية، وخطورة إهمالها وبقائها معلقة دون حل، لما كانت القضية الفلسطينية تبقى عالقة ومعلقة ثمانية عقود هي عمر الأمم المتحدة، ولو كان هذا الحضور عائداً إلى قناعة القادة أن الأمم المتحدة هي المكان المناسب لحل القضايا العالقة لما بقيت عشرات القرارات الأممية التي تخصّ فلسطين بلا تنفيذ، والأكيد أن المثال الحي على فلسفة الحضور وما يفسّرها في آن واحد هو الاعتراف العالميّ بدولة فلسطين، الذي طالما كان متاحاً لقادة العالم ولكنهم لم يفعلوا، وهم فعلوا فقط عندما نزلت شعوبهم إلى الشوارع لسنتين متتاليتين وبصورة شبه يوميّة، حتى فاضت بهم الشوارع والساحات وصاروا أقرب إلى حصار القصور، فتدارك الحكام أحوالهم ونطقوا متأخرين، وأحياناً بصورة مجتزأة ومشوّهة، ما كان عليهم قوله منذ زمن وبطريقة صحيحة بلا مواربة.
– هي ثورة عالمية تعمّ دول العالم وتشعل حماسة شعوبها، بما لم تفعله حرب فيتنام وأي حرب أخرى، حيث خطاب النخب والشعوب التي تتحدث بالدموع والغصة والبحة وارتجاف الأصوات عن فلسطين، محكوم بأزمة ضمير ونص اعتذار وشعور بالذنب والندم، فقد شعر الملايين أنهم يكتشفون فلسطين حديثاً بعد غفلة عمرها عقود، يقولون إن عيونهم كانت مغمضة خلالها، وإنهم كانوا جزءاً من عملية تسترّ على الجريمة المتمادية، وأسرى نظرة عنصرية عدوانية حوّلتهم إلى أكياس لحم تحمي التوحش الصهيوني بحق فلسطين وشعبها، وإنهم بالغوا في السعي للتكفير عن الهولوكوست والشعور بالذنب، وأدرك الصهاينة ذلك فأحسنوا استغلالهم، حتى وقع الأسوأ وصارت الشعوب غطاء لحرب إبادة عنصرية حقيقية، وهم الآن لا يريدون تكفيراً عن خطأ مرة أخرى بل يأتون بكل وعي لإحقاق الحق وإقامة العدالة، والدليل أن كلمة فلسطين حازت خلال سنتين على المرتبة الأولى في البحث على غوغل، اسمها خريطتها تاريخها قضيتها، كلها مواضيع تريد الشعوب اكتشافها بنفسها، وقد فعلت وقرّرت، ولذلك ارتفع في الغرب هتاف فلسطين حرة من البحر إلى النهر، وكتب شعاراً في داخل البرلمانات، وقالت الغالبية الشبابية الأميركية في استطلاعات الرأي الجامعية إن الحل الجذري للصراع في منطقتنا هو بإعادة فلسطين إلى أهلها الأصليين، وفتح طريق العودة أمام المستوطنين الذين جاؤوا الى فلسطين من بلدان أخرى هي بلدانهم الحقيقية وليست فلسطين بلدهم، بل هي بلد الذين يموتون من أجلها.
– شعار هذه الثورة العالميّة أن فلسطين تحرّرنا ولسنا نحن مَن يحرّرها، لكن ما لا يمكن إنكاره أن هذه المكانة لفلسطين وهذا الوعي بحقيقتها وحقها، ما كان ليكون لولا تضحيات استثنائية لا تزال مستمرّة لشعب فلسطين، وهذه التضحيات كانت مناسبة لفحص ثنائي الاتجاه، فحص الرواية التي يروّج لها عن “إسرائيل” المتمدنة والحضارية أمام مشهد الجريمة والتوحش يفضحها ويسقط زيفها، وبالمقابل فحص الحق الفلسطيني والحقيقة الفلسطينية، فيثبت ظلم النظام العالمي للحق والحقيقة، لكن أحداً لا يستطيع إنكار أن هذا الزمن الحار بدماء الشهداء ودموع الصمود والصبر، الذي أتاح انفجار الوعي العالمي بفلسطين، هو وليد شرعيّ لمقاومة فجّرت طوفانها عندما قرّرت قلب الطاولة بوجه النظام العالمي الذي أراد تصفية القضية الفلسطينية في سوق الصفقات، تحت شعار طريق عالميّ بين الهند وأوروبا تنتهي بتطبيع عربي إسرائيلي لا مكان للحق الفلسطيني والحقيقة الفلسطينية فيه.
– من حيث يدري أو لا يدري، ينطق كل حاكم ينشغل اليوم بالقضية الفلسطينية، صادقاً في البحث عن حل عادل، أو مروجاً لنصف حل للتخلص من أعبائها، أو متآمرا عليها لخنقها وإجهاض ثورتها العالمية، بالاعتراف بصواب ما فعله الذين صمّموا طوفانهم وأطلقوه غير آبهين بالشهادة، فتحققت نبوءتهم وخضع العالم لمشيئتهم ولو لم يعترف، وسواء أقرّ الذين يجتمعون على موائد صناعة القرارات الدوليّة أو لم يقروا، فإن الأكيد هو أن فلسطين سوف تبقى ترسم إيقاع العالم ولن تهدأ أحوال السياسة والأمن والاقتصاد في كل دول العالم دون حل جذريّ يُعيد لشعب فلسطين حقوقه ويعترف بحقيقته.
ناصر قنديل