لا كبيرة لدعاة الاستسلام ….

من مقال للأستاذ زاهر ابو حمدة في الاخبار 19 سبتمبر 2025

كل من يُطالب باستسلام الشعب الفلسطيني، يستند إلى مبررات تبدو في الظاهر إنسانية تدعو إلى ثقافة «حب الحياة» ورفض «الموت المجاني». لكن في عمقها تهدف إلى إطلاق التبرير منعاً للتغيير. وهنا التغيير فردي قبل أن يتحوّل جمعياً بالوعي أو اللاوعي. ولذلك تجد منظري الاستسلام يلومون الضحية، أي المقاومة، باعتبارها نفّذت الموجة الأولى باندفاع نحو الأرض المحتلة. وفي لحظة تتحوّل الضربة القاتلة لإسرائيل نقطة ضعف، لأن العقل المستكين يرفض قبول أن مقاومة محاصرة استطاعت كسر التفوّق الإسرائيلي في كل المجالات.

وعليه، يظهر التشكيك والتخوين، أن حكومة بنيامين نتنياهو وأجهزته الأمنية والعسكرية أرادوا «طوفان الأقصى» وعملوا على تسهيل أو غض الطرف والسماح بما حصل صبيحة 7 تشرين أول 2023. يعني إسرائيل أرادت أن توجّه لها رصاصة في الرأس وتتعرّض للإهانة الأكبر في تاريخها من أجل أن تفعل ما تفعله منذ نحو عامين. وفي مرحلة أخرى ينطلق «كونان العصر» في التحقيق والتحليل، أن «المقاومة تتحمّل المسؤولية لأنها لم تطلق سراح الأسرى وتقبل بالعروض المقدمة لها»؛ فتأتي الإجابة دائماً من نتنياهو أنه يرفض كل الحلول وينقلب على ما يُتفق عليه.

في المحصلة، ولو استمع المقاومون لأولئك المستسلمين ورفعوا الراية البيضاء؛ هل ستتوقّف الإبادة؟ طبعاً لا. والأسباب واضحة، فالاحتلال يريد إبادة الشعب وتهجيره ولا يريد وقف العدوان تحت أي مسمّى. ولذلك، لماذا محا أكثر من 400 قرية وبلدة فلسطينية مع أنه احتلها في النكبة؟ ولماذا ارتكب المجازر بعد وقف إطلاق النار؟ وهذا حصل بعد اجتياح لبنان، فارتكب مذبحة صبرا وشاتيلا بعد خروج منظمة التحرير من بيروت.

يحرفون التاريخ لإقناع الجمهور. يسوّقون «تخاريف» على شكل دعاية للاحتلال. تأتي هذه «التخاريف» على شكل الانبهار بالعدو، فيثبت مُروّجها أنه تعرض لـ«كي وعي برو ماكس». أي نظرية «كي الوعي» لصاحبها موشيه يعلون، وطبّقها في الانتفاضة الثانية وما تبعها، وتنتهج القوة لتؤلم الفلسطيني فكل مرة يفكر فيها بالمقاومة يتذكر الوجع فيرفضها ويمنعها؛ أما «البرو ماكس» أن تتحوّل لـ«الانبهار المريض» بالعدو وتعتبره لا يُهزم، وتتبنى سرديته بكل ما يفعله وتفرح لفرحه وتحزن لحزنه.

والأكثر من ذلك أن العدو مَن يُكذّب نفسه دائماً، مثل أن القادة في الأنفاق أو في الفنادق، فيستشهدوا فوق الأرض، لا بل يغتالهم في الخارج أي في الفنادق. في النهاية، الواقع يثبت أن كل الاتهامات و«الشخصنة» ضد الأحياء الشهداء، انقلبت على مخترعها ومروّجها والشواهد كثيرة تستحق لملمتها ونشرها دفعة واحدة من باب السخرية على مفبركها وناقلها وقائلها.

ومنها أن يطالب أحدهم المقاومة بتسليم سلاحها، وقبل دقائق كان يقول إن هذا «السلاح الذريعة» لا يفيد ولا يمكنه مواجهة القوة التدميرية للاحتلال. طيب، إذا كان عبارة عن «مواسير عبثية» وألعاب نارية، لماذا تريد إسرائيل «تشليحك» سلاحك غير المؤثّر؟ إلا إذا كانت الإجابة مرتبطة بمَن يحمل السلاح وليس بالسلاح نفسه، أي تفكير المسلّح وليس أداته.

■ ■ ■

وفي هجمة مرتدّة، يقارب منظّرو الاستسلام قطاع غزة أو مقاومة الشعب الفلسطيني بما حصل في اليابان أو ألمانيا. يريدون من قادة غزة أن يقفوا مثلما وقف الإمبراطور الياباني هيروهيتو أمام شروط الجنرال الأميركي دوغلاس مكارثر: هُزمنا. ويقارنوا بين اليابان حالياً كقوة اقتصادية وصناعية وتكنولوجية، وقبل أن تُهزم بالقنابل النووية الأميركية. كذلك استسلمت برلين عام 1945، وأنه رغم الإذلال والتقسيم والاحتلال، نظر الألمان إلى الهزيمة على أنها فرصة لإعادة البناء… وأصبحت ما نراه اليوم.

عظيم، لكن هل الشعب الفلسطيني لديه دولة أم مقاومة؟ الدول تستسلم إن ضُربت منشآتها الأساسية ولم يعد جيشها قادراً على الدفاع عن الأرض والشعب. لكن المقاومة لا تملك جيشاً ودفاعها عن الأرض محكوم بالاستمرارية التراكمية وتدفيع الاحتلال ثمن احتلاله، ليس أكثر. وبالعودة إلى اليابان وألمانيا، فهل قرارهما بيدهما أم بيد القواعد الأميركية على أرضهما؟ وهل الرفاهية في دولة يعني أنها مستقلة ولها سيادة وطنية؟

هكذا يتحوّل الاستسلام في نظرهم إلى فعل سياسي تكتيكي ضروري، وليس خيانة وطنية. وتبدو الصورة مغايرة إذا شئنا: فهل مقبول أن يقول الفرنسيون إنّ شارل ديغول دمّر باريس لأنه واجه جيش هتلر وحلفائه في الداخل؟ أو تتهم نخب فيتنام الثوّار بتدمير هانوي؟ وهذا ينطبق على كل الثورات والمقاومات في العالم، لكن في بلادنا تصبح المقاومة هي المسؤولة عن الدمار والخراب وليس العدو والاحتلال. هذا ليس غريباً بل غربي لأنه «ما غريب إلا الشيطان».

■ ■ ■

أمّا ما يضع العقل في الكف، أن ترى عدوّك يقول: «لو كنت فلسطينياً لحملت السلاح لأقاتل». هذا ما قاله إيهودا باراك، وما أكده ضابط «الشاباك» السابق نيسم ليفي: «لو كنت فلسطينياً لجعلت حياة الإسرائيليين جحيماً. نعم، كنت سأقاتل ضد المحتل الأجنبي. عندما تأخذ شخصاً وتدفعه للجدار وتمنعه من عدد من الخيارات، فماذا تتوقّع أن يفعل؟». أمّا رئيس «الشاباك» السابق عامي أيالون، فيؤكد أنّ «الإسرائيليين لا يمكنهم تحميل الفلسطينيين مسؤولية مقاومتهم للاحتلال. لو كنت مكانهم لحاربت بلا حدود ضد مَن ينهب أرضي».

في حديثه، أشار أيالون إلى أن الفلسطينيين يشعرون بأن أرضهم سُلبت منهم: «عندما يسألني أحدهم ماذا لو كنت فلسطينياً؟ أجيب أنني لو واجهت الظلم نفسه، كنت سأقاتل بلا هوادة». واستشهد بخطاب ألقاه موشيه ديان عند قبر الجندي الإسرائيلي روعي روتنبرغ، المقتول على يد الفلسطينيين عام 1956، حيث قال ديان: «لا يمكننا لومهم».

أمّا المستسلمون المرتجفون، فيلومون مَن قرّروا القتال، ويدعونهم إلى الاستسلام ورفع «الشنتان». وبما أن المعركة لن تنتهي، ونهايتها لن تكون لمصلحة بنيامين نتنياهو رغم كل التضحيات وثقلها وآلامها، فماذا سيكون مصير هذه الطائفة من الفلسطينيين والعرب؟ ربما مصيرهم يشبه مصير ياسر أبو شباب وفخري النشاشيبي. أمّا الأهم من هؤلاء، إذا قرّرت فصائل جبهة المقاومة في الإقليم التخلّي عن سلاحها أو الاستسلام في أي لحظة كانت، لن تكون النهاية للمقاومة كمفهوم وفعل إنما نهاية للفصيل المستسلم. وستظهر فصائل أخرى تحمل السلاح وتقاوم طالما إسرائيل موجودة.