إننا جميعاً باختلاف اللغات حول العالم نملك قصداً ونيّة عندما ننطق الكلمات، ولكل كلمة نقولها تصوّرات مشتركة وأخرى فردية خاصة ، وحتى تتضح الصورة فإننا عندما نقول “كأس ماء” فالقصد واحد و مشترك في كل لغات الأرض ، وهو ذلك الشيء المقعر الذي يستقرُّ فيه الماء حتى يتمكن الإنسان من الشرب، ولكن لهذه الكلمة بُعد شخصي خاص بحكم أنني فلسطيني فإنني أتخيل ال”كيلة” المصنوعة من الستانلس، كبيرة الحجم، تشرب منها حتى ترتوي وقد يظلُّ في قاعها القليل من الماء لأنها كبيرة وإن ذات الكلمة ترسم في ذهن كل شخصٍ صورة مختلفةً حسب التجربة الشخصية مع أن القصد واحد ،و تسمى هذه العملية بالتمثيل العقلي أو الصورة الذهنية.


يستخدم التمثيل العقلي في مجالات التعليم حتى تصبح عملية زرع المعلومات تبدو و كأنها نتاج تراكمي شخصي في ذهن المتعلم ، أشبه ما تكون بعملية نسجٍ للصورة لتكون جزءاً من البناء المعرفي السابق المتواجد في ذهن الإنسان.
يبرع محور المقاومة في هذا الأمر من خلال أجهزته الإعلامية ومن خلال رسائله التي يرسلها للكيان الصهيوني عبر المواقف السياسية و عبر المحتوى الإعلامي، ولا يقتصر أثر هذه المواقف على الكيان الصهيوني، بل يتعداه إلى جميع الجماهير التي تصلها الرسالة سواء من الحاضنة الشعبية أم من جبهات إسناد الكيان الشعبية والسياسة أيضاً ، وليتضح ما أعنيه فإنني سأتخذ اسم المقاومة اللبنانية “حزب الله” مثالاً،  فإن كلمة “حزب الله” قبل الهدهد  ترسم في عقلنا علماً أصفر وتمركزاً في الجنوب اللبناني بين الجبال والأشجار، أما بعد الهدهد، فتطور التصور الذهني لكلمة “حزب الله” عندما نسمعها، فنرى في ذهننا تصوراً عن مسيراتٍ ومواقع دقيقة، أما الآن وبعد منشأة عماد 4، زرع الحزب صورةً جديدة من حجم الإمكانات والاستعداد، لا يمكن أن نسمع كلمة “حزب الله” دون أن  نرى في ذهننا صورة أنفاق ضخمة تسير فيها المركبات العسكرية والدراجات النارية ومنصات ضخمة لإطلاق الصواريخ، صورةٌ توحي بالتمكن العسكري وبصعوبة الوصول إلى تلك المنشآت وضربها من قبل الكيان، فالتمثيل العقلي الذي تراكم من خلال رسائل حزب الله هو أنه قوة كاشفة للكيان ومواقعه، وأنه قوة صعبة الوصول لأنها تتمركز في أعماق الجبال، وبأنها قوة مليئة بالغموض، فهل عماد 4 رقمٌ تصاعدي أم تنازلي؟ أيها أشد تعقيداً عماد 4 أم عماد 1؟ هل هناك عماد 5 و 6؟ أسئلة يسألها العدو والصديق، لتصبح جزءاً من التصور الذهني الذي تحمله كلمة “حزب الله”.


يمكن إسقاط ذات المبدأ على انعكاسات الصبر الاستراتيجي الإيراني، والذي رسخ فكرةً التعالي والقوة والجبروت التي رسمها الرد الإيراني أول مرة، حيث تصدَّت لتلك الضربات ما يقارب الخمس قوات مجتمعة، فكيف سيكون شكل الرد بعد أن درس الإيراني حالة التصدي الأولى؟


وكذلك المقاومة في غزة، فدائماً تعطي الكيان شعوراً بالتراجع، ليتفاجأ في كل مرة بعودة القوة أشرس مما سبق.
إن الصورة المجردة التي يرسمها محور المقاومة عند النطق باسمه هي صورة الغموض حيث إن الكثير من الأسئلة لا جواب عليها ، فبالإضافة إلى الأسئلة التي تحيط بالقوة الإيرانية وحزب الله، تبقى الأسئلة التي بلا جواب هي السلاح الذي يرتديه المحور كاملاً، فما هو عامل استمرارية المقاومة في غزة؟ وهل لا يزال تمديد السلاح مستمراً؟ أم أنهم يستخدمون السلاح المخزون لديهم؟ أم إن التصنيع مستمر؟ من أين يأتون بالمواد؟ وإلى أيِّ عمق تصل أنفاقهم؟ وإلى أي مدىً تصل تلك الأنفاق؟ وما هو مصدر التجنيد وكم هو حجم دفعة 2024؟ إذا كان هذا حال لبنان البعيدة عن مصدر التوريد، فما هو حال العراق وسوريا واليمن؟ وإذا كان عماد التخطيط الاستراتيجي للمحور يعتمد الغموض والمفاجأة، كيف يمكن قياس قوته ومقابلتها بالقوة التي يمكلها الكيان والتي تتصف بأنها مكشوفة ودموية؟


وعلى صعيدٍ آخر مغايرٍ للطرح الذي أوردناه، نلاحظ أصواتاً تدين المقاومة بكليتها وتجرّمها على اعتبار أن المقاومة هي المتسبب بموت الأطفال والقتل والتشريد الذي يحدث جراء إجرام الكيان في غزة وجنوب لبنان وفي المنطقة.
إن المنطق الذي نعرضه يبين لنا بوضوح أن هذه الأصوات لم تخرج بانطباعاتٍ آنية استنتاجاً من عملية السابع من أكتوبر، وإنما هي أصوات تعبر عن تراكم معرفي لديها يقع على احتمالات و هي إما أنهم يملكون تصوراتٍ إيجابية عن الكيان باعتباره ديمقراطية حقيقية وأن الفلسطينيين في غزة غوغاء وقد انتهى دورهم التاريخي في المنطقة، وعلى هذا الأساس يرون للكيان الحق في الدفاع عن نفسه!! و إما أنهم يرون في الكيان قوةً شريرة إلى الدرجة التي لا يجب المساس بها لكيلا يلحقَ بنا شرّها، كمن بنت الدبابير عشاً في منزلهم، فيرون أن ترك المنزل أفضل خيارٍ لهم ، ولا ينتج هذا التصور إلا من خلال تراكم إعلامي ممنهج، ومناهج تعليمية تدفع بهذا الاتجاه، أو حتى تجارب شخصية متمثلة بالانتفاع والتقارب مع الصهيوني أو تأثراً بدعايته العسكرية المستقاة طبيعة الحروب السابقة التي أثارها الكيان في المنطقة!!
وبناءً على ذلك، فإننا نشخص هذه التصورات على أنها حالة من الاختراق الفكري المتمثلة بالتأثر أو بالانتفاع، وأقترح لذلك بأن يمتد جسرٌ من الحوار الداخلي بين أنصار المقاومة وبين من تراكمت المعرفة لديهم لتتمخض عن موقف مؤيدٍ للكيان، ولا يبدو اقتراح الحوار غريباً مادامَ  داخلياً مع أبناء البلد، بل ويمكن الاستفادة من تعاظم التصورات عن قوة المحور لتكون أداة نافعة تحضر أبناء البلد إلى ذات الحوض لما في تعاظم تلك الصورة من تعزيزٍ للهوية ومن شفاءٍ من الانهزامية، فإن داء الانهزامية خطير في بُعده المستقبلي إذ تشكل هذه الآراء بتصوراتها أرضاً خصبةً للخطاب الصهيوني الذي قد يشعل معارك داخلية يثيرها المنتفعون ويروح ضحيتها المتأثرون بزخم الخطاب الصهيوني.