التحول في مفهوم الجوع ضرورة ثورية
اثنتان من الأمور التي نعيشها في عصرنا واعتدنا عليها حتى أصبحنا نظن أنها هي الحالة الطبيعية: الأولى أن الطعام تحوّل إلى موادٍ مغلَّفةٍ بالورق والعلب ويوضع على الرفوف في الأسواق. الأمر الذي جعل مصادر الإنتاج بعيدةً عن عين الإنسان، فلا يرى المزارع والغابات والأحواض المائية إلا عند الذهاب إلى الطبيعة كفسحةٍ استثنائيةٍ. والأمر الثاني هو أن الطعام قد تحوّل إلى مسألة عاطفية، يُروَّج لمذاقه من خلال الصور المغرية على شاشات التلفاز أو في مهرجانات الطعام ومن خلال وسائل التواصل الإجتماعية أيضاً.
إن غياب الصورة الأصلية للطعام عن أذهان الناس، واعتيادهم عليه معلبًا ومُصنَّعًا من قِبل الشركات ومَوضوعًا على الرفوف، هو شكلٌ من أشكال انتزاع هوية الإنسان وعلاقته الخاصة بأرضه وبيئته. وبالطبع نفهم ذلك بوضوح عند ملاحظتنا للحالة البديهية الإنسانية أن ما يزرعه الإنسان ويصنعه تفرضه عوامل مثل الوراثة وطبيعة الأرض وموقعها وتُرابها وهواؤها وحيواناتها؛ وذلك يفرض على الإنسان تباعاً شكلاً لحياة الإنسان وثقافته في هذه البقعة من الأرض أو تلك، الأمرُ الذي تنتجُ عنه الهوية المتوارثة الممتدة حتى أنها تُدوَّن وتصبح جزءاً من تاريخ الأمم الإنسانية. ففي دول البحر المتوسط تشتهر زراعة الزيتون وتصنيعه واستخراج زيته، وتحوم حول زراعته أجيال كانت قد توارثت طريقة الأجداد في تصنيعه، مما كان قد خلق ثقافة مشتركة بين الناس في المنطقة حول تفاصيل هذه الزراعة وكذلك ما ينتج عنها -الثقافة المشتركة- من أنواع غذائية مختلفة ارتبطت بهوية الزراع، وكذلك الحال ينطبق مع كل مورد من موارد الأرض. وتتشابه الأمم بشكل طيفي في عاداتها من الشرق إلى الغرب، فكلما تقاربت الجغرافيا تقاربت العادات، وكلما تباعدت الجغرافيا تباعدت العادات.
أما في البعد الآخر، فقد تفاقمت مسألة الترويج للطعام ومذاقاته حتى أن الإنسان اليوم لم يعد يعرف شعور الجوع ولا يجربه، والسبب في ذلك أن عملية الترويج إلى الطعام قد ارتبطت بالعواطف الإنسانية المختلفة بدلاً من الجوع، وذلك من خلال الدعاية والمحسنات الكيميائية المضافة إلى الطعام والتي تبعث حالةً تشبه الإدمان على أنواع الطعام، وهو الأمر الذي أدى إلى تغيّر مفهوم الطعام لدى الإنسان، ليصبح ترفاً واستهلاكاً وتعبيراً عن الذات، لا حاجةً إنسانية.
أثبتت الدراسات النفسية أن هناك شيئًا يُسمّى بـ”الأكل العاطفي”، وهو عندما يأكل الإنسان عند الحزن والقلق، والملل والوَحدة، والفرح والمكافأة، كوسيلة يقوم بها الإنسان لتخدير نفسه بحثاً عن السعادة.
ولكن، هل كان الإنسان ليتجه إلى هذا السلوك لولا الحملات الدعائية التي أوحت للناس بأن السعادة في شكل الطعام ورائحته ولونه ومذاقه؟!
بهذ المفهوم تحول الطعام إلى مشاعر معلبة، وقد عاش أكثرنا ورأى حالة النهم العالمية والتي تشير إلى حقيقة وجودها (أي حالة النهم) الكثير من الأمراض الدارجة التي لم تكن موجودةً لدى الإنسان فيما سبق.
إن غايتي من طرح هذين البُعدين هو الوصول إلى واحدةٍ من أسباب انفصال الإنسان عن مجتمعه وتراثه وقومه، حيث أننا إذا ما دققنا أكثرَ في هذا النمط الغذائي العالمي المفروض على الأمم من قِبل الشركات العابرة للقارات وبتسهيل من الحكومات، فإننا سنجد أن هذا النمط لا يكتفي بتغيير مفهوم الطعام وربطه بالسعادة الآنية، وإنما نجد أيضاً أنه يتجه نحو تكوين ثقافة بديلة عن الثقافة المتوارثة، ثقافة فردية أنانية لاهثة وراء السعادة الآنية، لأن طبيعة النمط الغذائي تُفقد الأفراد حالتهم الجمعية في الذوق المشترك عند التجمّع حول الطعام، وبل وتجعل الذوق الفردي طاغياً. وقد انتبه إلى ذلك واحدة من فرق الغناء الألمانية في فيديو كليب مصوّر عنوانه (كلنا نعيش في أمريكا)، وكان الفيديو المصور يحوي لقطاتٍ من حول العالم، فمرةً يعرض شخصاً في الهند يدخن السجائر الأمريكية، وآخرون في أفريقيا من القبائل البدائية يتجمهرون حول التلفاز ويأكلون الطعام الأمريكي السريع، وبوذيين كذلك مع علبة من المياة الغازية الأمريكية الصنع وعلى وجههم ابتسامة عريضة… هذه الأمم تنساق وراء الفردانية الأمريكية وتبدّل هويتها بدءاً من الطعام ليصبح العالم كله أمريكا.
إن هذا التشوّه المفاهيمي حول مسألة الطعام يُشبه الوهم الجميل الذي يُخفي وراءه قطيعة مرعبة.
وقد تجلّت صورة هذا الرعب وهذه القطيعة عندما أدرك الناس أن رفوف الطعام وألوانها تُخفي وراءها تمويلًا ضخمًا لنظام عسكري عالمي دفعت أثمانه الأمة ذاتها التي تعتاش على هذا الطعام، دفعت أثمانه دماً وسجناً وقتلاً وتشريداً في غزة وفي المنطقة، وكانت الحالة الفردانية هي ردة الفعل التي عاشتها الأمة فلم يحرك أحدٌ ساكناً لينقذ غزة لأن الفرد الواحد لا يملك من الإتصال ما يكفي ليعرف ما يفكر به الآخر، فاستفاق الناس على هذه الحقيقة المرعبة، حقيقة الفردانية والانخراط في الجريمة، ولكن، هل أدرك الناس أن الخلل هنا ليس في منتجٍ بعينه فقط، وإنما الخلل الأكبر في النمط الفرداني المُخدِّر الذي خلقه هذا النظام حول مسألة الطعام وجعلها وقوداً له تحرق الناس وتجوعهم في غزة؟
تحت هذا المنظور، فإن علينا إعادة ضبط المفاهيم دائما بتفكيك شكل هذا الاستعمار وإعادة ضبط الصورة تماماً كما فعلنا في المقالة السابقة بعنوان التشوّه المربح، ومن هنا أرى أن علينا أن نعيد النظر في المسألة من جذورها، واضعين في الحسبان أهدافاً نهضوية ثورية تغير الواقع من خلال تغيير المفاهيم التي تؤثر بشكل مباشر في سلوكياتنا اليومية، وجذر مسألة الطعام هنا هو الجوع. والجوع في تصورنا هو مجرد الحاجة إلى الطعام، وهنا مكمن الخلل، حيث أن الاستعمار العالمي قائم على فلسفة نفسية صلبة تدرس احتياجات الإنسان ومنها ينطلق إلى التوسع والسيطرة، غير أن الإنسان مرنٌ جداً في تعريف مفهوم الحاجة والشعور بها، فلربما صيفٌ على شواطئ هاواي يُعتبر “حاجة” عند البعض، أو أن تناول الطعام بسبب القلق هو حاجة أيضاً كذلك! فلا بد لنا من تعريفٍ جديدٍ يجعلنا قادرين على التمييز والتفريق إذا ما كان جوعنا طلبٌ للطعام أم هو برمجة عاطفية ذهنية؟! لذلك فلا بد من التعريف أن يكون منضبطاً معادياً لنمط العاطفة والاستهلاك. فأقترح أن الجوع هو “الحاجة إلى الطعام إلى درجة تسقط فيها أولوية التلذّذ والتذوّق وتحضر فيها أولوية التقوي والعيش” أي أن يصل الإنسان في جوعه إلى حالة تتجاوز مسألة الألوان والبهرجة، حالة تجعله يأكل أيّاً مما أُتيح له.
وإنني أرى بطبيعة الحال أن هذا هو أقل الواجب علينا في ظل هذا التطهير العرقي القائم على التجويع في غزة. بل إن هذا السلوك هو الخطوة الأولى التي قد تدفع الكثيرين إلى الإضراب عن الطعام احتجاجاً واعتراضاً ومحاربةً لتجويع أهل غزة. ولعل في هذا اقتراباً من غزة في عواطفنا ووجداننا ونوايانا وبدايةً لانفراجة في ساحة الشعوب التي لا تملك أسلحةً إلا أمعاءها بالمقاطعة أولاً، وبالجوع الحقيقي ثانياً الذي يجعلنا على عتبة إرادة لا تكسرها قوة الأنظمة المستبدة، الإستعمارية وحلفائها.
لقد صدق الذي قال يوما: “أنتَ ما تأكل” You are what you eat، فإن كنت تأكل طعام الإستعمار وعلى طريقته فأنت في حظيرته!
آدم السرطاوي – كندا