مدخل: نهاية الرواية الأحادية وبداية عصر تعدد الحقائق
منذ قرن من الزمان، وعبء الاحتلال جاثم على صدر فلسطين. ظنّت القوى الكبرى أن بإمكانها طمس الحق وتزوير الوعي، فصنعت كياناً غريباً عن الجغرافيا والتاريخ، وفرضته بالقوة على شعب أعزل، لكنه عصيّ على الانكسار. اليوم، تعود فلسطين من بين الأنقاض، ليس فقط كقضية، بل كلاعب في معادلة عالمية تتغير، بينما تنهار العولمة الغربية التي أنجبت كيان الاحتلال.
ما نشهده ليس أزمة في تحالف، بل زلزالًا يعصف ببنية الهيمنة الغربية، من واشنطن إلى تل أبيب، من كييف إلى البحر الأحمر، من غزة إلى القطب الجنوبي. العالم يتفكك من مركزه، والنظام الدولي الذي منح “إسرائيل” شرعيته، يتهاوى.
أولاً: العولمة الغربية – حين تسقط أقنعة الليبرالية عن أنياب الهيمنة
- الهيمنة بلباس إنساني
العولمة لم تكن سوى أداة ناعمة لفرض مصالح المركز الغربي على الهامش. تحت عناوين براقة كـ”حقوق الإنسان” و”الديمقراطية”، بسطت واشنطن سطوتها على العالم، وفرضت كيان الاحتلال كحارس لمصالحها في قلب العالم العربي والإسلامي.
هذا الكيان، الذي زُرع على أنقاض شعب مشرّد، لم يكن يوماً “دولة طبيعية”، بل أداة وظيفية لخدمة مشروع إمبريالي. إنه كيان لا يملك مقومات البقاء الذاتي، بل يتغذى على الدعم الغربي، ويعيش على هامش النظام العالمي. - صراع الأقنعة: من الشراكة إلى التبعية
العلاقة بين واشنطن و”إسرائيل” كانت دائماً علاقة غير متكافئة. ترامب لم يُخْفِ هذا الأمر، بل جعله وقحاً: “إسرائيل” أداة، لا أكثر. حين رفض ضرب إيران، رغم توسلات نتنياهو، كشف أن المصالح الأمريكية فوق كل شيء، حتى فوق “الالتزامات التاريخية” تجاه تل أبيب.
إنه درس قاسٍ للكيان: حين تتغير المصالح، تُرمى الأدوات.
ثانيًا: كيان الاحتلال وسط انهيار المنظومة التي أنجبته
- أمريكا تتراجع… والنظام الأحادي يتفكك
الاقتصاد الأمريكي يتقلص من 40% إلى 24% من الناتج العالمي.
الثقة بمؤسساتها تهوي.
الدولار يفقد هيبته كعملة احتياط.
ضمن هذا السياق، لم تعد واشنطن قادرة على حماية “إسرائيل” كما في السابق. أولوياتها باتت اقتصادية، داخلية، شرق آسيوية، بينما كيان الاحتلال يعاني من:
أزمة شرعية متصاعدة.
عجز أمام مقاومة تتجدد كل يوم.
تراجع الردع، وسقوط روايته الأخلاقية. - “إسرائيل”: مشروع استيطاني هش في لحظة ما بعد الاستعمار
لم يعد الكيان يخيف أحداً. لقد انكشفت هشاشته في معركة “طوفان الأقصى”، حين واجه مقاومة بأسلحة محدودة، فانهار أمنياً وعسكرياً ونفسياً. يعيش الكيان اليوم أزمة هوية وجودية، ولا يملك أي مشروع سياسي سوى المزيد من الدم، والمزيد من الاستعانة بواشنطن.
لكنه لا يدرك أن واشنطن نفسها تتفكك.
ثالثًا: ولادة البديل العالمي… وفلسطين تدخل من بوابة التعدد القطبي
- الشرق الجديد… يغيّر المعادلة
الصين تطرح مفاهيم العدالة الدولية، وتدعم القضية الفلسطينية علناً.
روسيا تكسر الاحتكار الغربي وتستقبل وفود المقاومة.
بريكس تعيد رسم الاقتصاد العالمي، وتكسر احتكار الدولار الذي يستخدم كأداة تجويع ضد غزة.
لأول مرة، يصبح الحصار غير محكم، والدعم غير مشروط، والصوت الفلسطيني مسموع في عواصم القرار خارج واشنطن ولندن. - سلاح المقاومة الجديد: المعرفة، التكنولوجيا، واللامركزية
المقاومة لم تعد فقط بندقية في نفق، بل أصبحت أيضاً:
رواية تُبث عبر التيك توك والإنستغرام، تكسر جدار الإعلام الموجّه.
تمويلاً مشفراً يكسر الحصار المالي.
وعياً سياسياً واقتصادياً لا يركن إلى الوعود الغربية.
هذا تحوّل استراتيجي: من ضحية تطلب الإنصاف… إلى فاعل يفرض شروطه.
رابعًا: حل الدولتين… انتحار ناعم لكيان الاحتلال
يروج الغرب لـ”حل الدولتين” كمخرج من أزمة الكيان، لكن الواقع مختلف تماماً:
قبول الكيان بحل الدولتين يعني التخلي عن القدس، وهو ما يعادل الانتحار الرمزي.
تفكيك المستوطنات يعني تفكيك البنية الاستعمارية التي تمثل جوهر “إسرائيل”.
انسحاب من الضفة يعني فقدان العمق الأمني.
وبالتالي، حل الدولتين هو مجرد تمهيد لتفكيك كيان الاحتلال، لا تسوية تحفظ وجوده. ولهذا يرفضه قادة “إسرائيل” حتى وهم يتظاهرون بقبوله.
خاتمة: فلسطين من النهر إلى البحر… حقيقة لا يمكن محوها
إن ما يسمى “إسرائيل” يعيش نهاية وظيفته التاريخية. لم يعد يمثل نموذجاً يُحتذى، بل عبئاً على الغرب نفسه. ومع تراجع الهيمنة الغربية، ينكشف الكيان على حقيقته: كيان استيطاني مؤقت، لا مكان له في مستقبل متعدد الأقطاب.
اليوم، فلسطين تكتب سرديتها من جديد. لا عبر قرارات الأمم المتحدة، ولا مؤتمرات مدريد وأوسلو، بل عبر معادلة المقاومة، والمثابرة، والتجذر في الأرض، والانتماء للأمة.
فلسطين لم تعد تطلب الاعتراف، بل تفرضه.
ولن يكون لهذا القرن معنى، ما لم يتحقق الشعار الذي أصبح يقيناً:
“من النهر إلى البحر، فلسطين حرة.”
خالد دراوشه – معهد فلسطين للدراسات الاستراتيجية