يحبذ ترامب البراغماتية زمن المفاوضات بغاية عقد الصفقات، هي لغة تسعى لنهب المستضعفين لاستدراك سقوط الدولار الذي حكم لعصور عالم ديمقراطية الدجل، دون قيمة احتياطية له، بل بقوة الحروب وقتل الشعوب جنت أمريكا ثمار العداء والكره الموجه ضدّها، بشكل ليس له مثيل.
هذا مع ثبات المحور بما قدّم من تضحيات أمام عجز التوحّش الصهيوني بحروب ابادته القياسية لشعوب المنطقة لم يجن منها سوى التوجس وخوفه الوجودي لبقائه.
استطاعت طهران من خلال التفكيك والافتكاك اثبات أنّ صانع السجاد يتقن العزف على التناقضات أمام الحرب الاقتصاديّة المستعرة التي فتحها ترامب على جميع الجبهات، سواء مع الحليف أو مع الخصم.
كما تستفيد طهران من عامل الزمن لتعكس توقعات خصومها. بمعنى أنّها ستزيد الكيان أزمة بما يعمّق ورطتها الوجوديّة على هذا كان اللقاء الاول للنتن ياهو مع سكرتير المالية الامريكية لمعرفة حجم الدعم والاعانات التي ستقدمها امريكا ضمن الازمة وتداعياتها.
أما في كواليس اللقاء الثاني المغلق بين ترامب والنتن، فقد شكّل الملف الإيراني محورًا أساسيًا للنقاش لمعرفة سقف المعارك القائمة وحدودها وتقسيم الكعكة السورية مع التركي وتعهد الامريكي بان ينال الصهيوني أكبر قدر ممكن من الاراضي على العصملي المخاتل، وسط تباين واضح في المقاربات بين الطرفين، وكما جرت عادته في الملفات ذات الطابع الأمني، يريد الصهيوني سياسة «الحزم النووي» تجاه طهران، مطالبًا بتفكيك كامل البنية التحتية للبرنامج الإيراني، على غرار ما جرى مع ليبيا عام 2003، أمّا عن إيران كان همّ ترامب أن يظفر بصفقة الاستثمارات وظهر ترامب أكثر براغماتية، ولوّح بالعصا دون أن يكشف ما إذا كان مستعدًا لاستخدامها فعليًا. أما إيران، فتحسب خطواتها بميزان الدروس التاريخية ووعي الشعوب ومدى قدرتها على افتكاك حقوقها، وترى أن التراجع الكامل للولايات المتحدة الامريكية قد يكون مقدمة للانهيار، لا للتقارب.
كما علا السقف الامريكي بشروط المفاوضات منذ ارسال الطلب الاول الى طهران للنزول بعدها الى المربع النووي ليقبل في الاخير بالشرط الايراني ضمن الاتفاقية المبرمة في عهد الديمقراطيين بإضافة رقم أكبر لصفقة مالية يحتاجها الامريكي حيث تتوقع مصادر عليمة أنّ يصل الى تريليونين دولار خلال خمسة سنوات وهذا الرقم مقبول ضمنيا من الطرفين بعد أن يرفع الحصار على طهران.
مع ما يجري يبقى المحور ثابت ويُقاوم رغم الجراح وفي الخضم تبيّن أنّ ورقة اليمن متينة وماكينة عوّضت خسارات من أهمها سوريا. كما أنّ غزّة صامدة صابرة ولم تستكن رغم تكالب الأقربين والأبعدين ولبنان لم ينكسر رغم الشحن الداخلي والتّأليب الطائفي لطابور الصهينة الداخلية وعامل الوقت هو الكفيل لامتصاص العديد من محطات النزاع للتصدع الداخلي.
مما لا شك فيه أنّ الأزمة الحاصلة ستنتقل الى النظام الرّسمي العربي الذي راهن على إنهاء القضية الفلسطينية وحرب مفتوحة شعواء تنهي الصداع الإيراني ومحورها وتفسح المجال لتطبيع مفضوح. كما ستنعكس ارتدادات طوفان الاقصى على النسيج السياسي للأحزاب التي تبينت أنّها أسماء دون مسمّى وكلّ ما كانت ترفعه عبر تاريخها عكس ضعف وجودها وانتفاء جماهيرها.
أمّا تركيا المطبعة والداعمة للحرب منذ البداية هي أيضا حسبت باكرا جدّا أنّ الأطلسي قرر كبح حضور ايران في المنطقة ونسيت أنّ العمود الفقري للأطلسي يريد ان ينهيه .اما اتّجاه تمكين تركيا من أدوار مُتقدّمة اصبح من وهم خيال وبعد الانتهاء من أزمة اوكرانيا واعادة ترتيب البيت الاوروبي سنشهد وضع صعب لتركيا في محيطها الأوروبي والاسيوي.
سيظهر للجميع ان إيران قويّة بما بنت من قوّة معرفية وعلمية رادعة وبما متّنت من علاقات مع الرّوس والصينيين والمحور وبصدقها مع المُتحالفين معها.
أيام تفصلنا عن تحوّلات عظمى وضخمة غير مسبوقة منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية. طبيعي أن تكون الأثمان باهضه والتضحيات جسيمة. ما عاد الكيان عقدة إستراتيجية كما كانت والدليل ما نراه من قصف هنا وهناك يطال غزّة وسوريا ولبنان والعراق وإيران. هو قصف يحاول جبر وترقيع صورة قوّتها التي هشمت على مرتفعات جبل عامل التي يستحيل أن يرممها او يبعثرها من ذاكرة الجمهور المقاوم.
الحاصل ان الغرب بهوس قوته يتفكّك وهيمنته تتلاشى ويعيد ترتيب اوراقه وبالتالي تحالفاته. كان لحرب اوكرانيا دور في ذلك كما لحرب غزّة ولبنان واليمن دور مهم ولا يعتقد أنّ الأمريكيين سيقامرون بمواجهة طهران او الدخول في حرب لتايوان الصينيّة.
من الصعب أن تكون هذه أجواء لحرب عالميّة ثالثة بالمفرّق والوكالة وبوسائل ناعمة براغماتية. قد يقبل نظام الهيمنة منطق التقاسم وربما هزيمة متدرّجة بالنّقاط وقد يهرب هائجا الى الأمام فتكون فوضى عارمة تسبق السقوط الكامل وكله أصبح مرهونا بالمصالح ومن اهمها النفط شريان الاقتصاد العالمي المسكوت عنه عمدا.
تدرك إيران جيدا ما جرى للعراق وليبيا وسوريا حين جُرّدت هذه الحكومات من أوراق الردع وسقطت أنظمتهم بسهولة برفع الغطاء الشعبي الداعم الاهم لحكوماتهم ولكل كيان ذات سيادة مما شكّل درسًا استراتيجيًا لن يُنسى في طهران. ولهذا فإن السيناريو الدخول في حرب شاملة من وجهة نظر إيران، كان أقرب إلى وصفة انتحار سياسي وربما وجودي، ويصعب القبول بها بعدما عانى شعبها حربا ضروس وثلاثة حصارات في فترة لم تتجاوز الاربعين عاما. كما لم يبقى اي طرف رسمي عربي يمكن التنسيق معه في الملفات الإقليمية والدولية غير الجزائر وكانت زيارة وزير خارجية إيران تصب في نفس الخانة للتشاور والتعاون رغم البعد الجغرافي للمساحة الصراع .
تعلم إيران جيّدا أنّها تقف كما الحلف الذي يشاطرها الموقف وطيف من الدول الأخرى، أمام منطقين متناقضين في الظاهر لكنّهما متكاملتين في الواقع.
واقع حرب الاستنزاف الإعلامي والسعي إلى تفجير الخصوم من الداخل أو في أقلّه إضعافها وجعلها عاجزة عن المقاومة. هذه لعبة سارية على مدار الساعة واليوم، حيث جهز الحلف الصهيوني الأمريكي بمساعدة ودعم وتمويل عربي ترسانة من الصحف والمجلات وكذلك المحطات التلفزيونيّة وما هو لديها من مواقع التواصل الاجتماعي، بغية إقناع العمق الشعبي المساند بما تقول أنّها «عبثيّة الوقوف في وجه المارد الصهيوني الأمريكي».
على المقلب الأخر تعدّ الولايات المتحدّة ما استطاعت من الأسلحة وهي بصدد التهويل بضرب إيران، ويردعها الخوف من الردّ، لكن هذا المطلب متروك للزمن في حال خفضت طهران من استعدادها أو هي تراخت في تقديرها.
حرب الإبادة الدائرة في غزّة يراها المنفذون ومن يسلّح ومن يدفع المال نزيفًا في جسد الحلف بكامله، وهي بحساب منطق المربّعات الذي ابتدعه كيسنجر بوابة لفتح المربعات المجاورة لها.
في المقابل، ليس من غاية من وراء العنف الذي يعبّر عنه أعداء طهران سوى التغطية على ما يعتريها من خوف أو هو الرعب، حين عجز شلال الدم المراق في غزّة عن طمأنة العمق الصهيوني وعلى المقلب الأمريكي بدأت تلوح بوادر انقسامات مجتمعيّة عجلت بها خطة ترامب الساعية إلى إفراغ الإدارة الأمريكية من موظفيها في وكالة الاستخبارات الأمريكيّة والبنتاغون وزد عليها الازمة الجمركية التي لعبت ببورصة الاسهم ويتوقع ان تصل الى سندات الخزينة الامريكية وهنا ستحصل الطامة الكبرى ….
حسن فضلاوي