– خلال أقل من أربعة شهور على انتخاب رئيس الجمهورية وخمسة أسابيع من نيل الحكومة الثقة، تجاوز لبنان تحت نيران الاعتداءات الإسرائيلية المتمادية، مرحلتين مهمتين في تكوين رؤيته حول إدارة الملف السيادي الذي طالما كان أبرز نقاط الانقسام الداخلي. وبالتالي الخاصرة الرخوة في مشروع بناء الدولة، وفي لبنان كان دائماً هناك تيار سياسي ونخبوي يعيش خارج مفهوم الوطنيّة ولا يمانع بالتعاون مع كيان الاحتلال وبحد أدنى التفاهم معه، لكنه كان دائماً تياراً معزولاً وضعيفاً لا يمثل أكثر من 5% من اللبنانيين، وكانت رموز هذا التيار تكيل الاتهامات للمقاومة وتناصبها العداء وتصفق لكل مرة يتمكن فيها الاحتلال من توجيه ضربة للمقاومة. ودائماً كان يبدو هذا التيار قوياً عندما يختبئ وراء تيار قويّ يتقاسم مع التيار الشعبي والسياسي المؤيد للمقاومة، باقي اللبنانيين مناصفة، ويؤمن بأن الدولة هي الإطار والعنوان للجمع بين مفهوم السيادة ومواجهة الأطماع والاعتداءات الإسرائيلية. وهذا التيار يعتقد أن بناء دولة صديقة للغرب والعرب تنضبط بها المقاومة، كفيل باجتذاب ضغوط دولية وإقليمية، أميركية خصوصاً، لا تستطيع “إسرائيل” تجاهلها، ما يضمن التزام “إسرائيل” بموجبات احترام السيادة اللبنانيّة.
– منذ وقف إطلاق النار وما تلاه من انتخاب رئيس للجمهوريّة هو قائد الجيش العماد جوزف عون، وبعده تشكيل حكومة برئاسة نواف سلام، ولد تفاهم لبنانيّ لبنانيّ بدعم دوليّ، أميركيّ خصوصاً، عنوانه تنازل المقاومة عن ربط انسحابها من جنوب الليطاني بإكمال الانسحاب الإسرائيلي إلى خلف الخط الأزرق، كما يقول القرار 1701 بشروط الانتقال من مرحلة وقف الأعمال الحربيّة إلى إطار الحل طويل المدى، وقبول المقاومة بجعل هذا الانسحاب رصيداً أولياً لمشروع دولة تعرف المقاومة أنّها صديقة لأميركا والغرب والعرب، واختبار فرضيّة تكفل ذلك بفرض ضغوط تلزم “إسرائيل” بالانسحاب ووقف الاعتداءات، فتكون منطقة جنوب الليطاني منطقة اختبار أوليّ لحصر حمل السلاح بيد الدولة، ومدى جهوزية الأميركيين لبذل ما يجب لإنجاح هذا الاختبار كي يتسنّى السعي إلى توسيع نطاقه وتعميمه ضمن استراتيجية للدفاع توفر شروط الحماية للبنان وتضمن تحقيق حصرية السلاح بيد الدولة فوق كل الأراضي اللبنانية، كما قال رئيس الجمهورية في خطاب القَسَم، وشرح الآليّة في حواره مع صحيفة الشرق الأوسط، بخلاف كل الأبواق التي تتبرّع لتسويق نظريات إسرائيلية تحت شعار الخلط بين المراحل والقول بما يقوله الاحتلال عن ربط انسحابه بإنهاء سلاح المقاومة.
– اختبر لبنان فرضيّة الحل الدبلوماسي، وكان آخر الاختبارات اللقاءات التي جمعت المسؤولين اللبنانيين مع المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس، وما سمعوه من تنصل أميركيّ من ممارسة الضغوط على “إسرائيل” للتقيّد بالقرار 1701 واتفاق وقف إطلاق النار، واستمعوا في نقاط معينة إلى الذرائع الإسرائيلية ذاتها لعدم تنفيذ القرار 1701 واتفاق وقف إطلاق النار، وكان ذلك كافياً للتيقن من أنّهم حسناً فعلوا وتصرّفوا بحكمة ووطنيّة مع بعضهم البعض، فقد كان الانجراف نحو تصادم الدولة والمقاومة تحت شعار الخلاف على جدوى الحل الدبلوماسيّ، عملاً انتحارياً مجانياً لصالح الاحتلال. وها هي التجربة تقول إن الحل الدبلوماسي إن لم يكن متعذراً فهو بالحد الأدنى غير كافٍ، تماماً مثلما الدعاء مفيد، لكن قليلاً من القطران معه يشفي، كما ينقل عن النبي محمد (ص) جواباً لامرأة عقرت ناقتها وجاءت تشكو إليه أن الدعاء لم يقُم بشفائها، بقوله، قليل من القطران مع دعائك، هذا كان يشفيها.
– سبقت زيارة أورتاغوس حملة تسويق لتهديداتها، وتبشير بالويل والثبور ما لم يخضع لبنان للأجندة الأميركية الإسرائيلية، وجوهرها نقطتان، القبول بمفاوضات سياسيّة لا تقنية حول النقاط المتحفظ عليها، ما يعني التطبيع عملياً، والقبول بتقديم البحث بمستقبل سلاح المقاومة ووضع جدول زمني لإنهاء ملفه قبل إنجاز ما اتفق عليه وما نصّ عليه القرار 1701، وكما وصلت إلى لبنان مواقف أورتاغوس قبل وصولها، وصلت إلى أورتاغوس مواقف المسؤولين اللبنانيين، بالتمسك بالقرار 1701 واتفاق وقف إطلاق النار، ومطالبته للأميركيين بالإيفاء بتعهداتهم كضامنين للاتفاق كإطار تنفيذي للقرار 1701، ومع نهاية زيارة أورتاغوس كان اللبنانيون قد اختبروا صمودهم بوجه الضغوط واكتشفوا عناصر قوّتهم وقوّة وحدتهم، حيث تغيرت لهجة أورتاغوس، بخلاف ما تروّج الجهات الهامشيّة سياسياً وشعبياً والقادرة إعلامياً فقط، بحديثها عن مصادر خاصة تقول بخلاف ما سمعه اللبنانيّون من أورتاغوس عن أن ملف السلاح ليس له مهل، لكن كلما كان أسرع يكون أفضل، وعن الحرص على مواصلة تنفيذ الاتفاق والقرار كأولويّة.

ناصر قنديل