أفتخر أنني لم أكتب يوما في علم الطوائف لأنني كنت جاهلا به وأعتبره من علوم أكلة لحوم البشر وعلوم أنظمة الفصل العنصرية وهو أشدها انحطاطا .. بل هو درجة من درجات الغباء الذي لابرء منه .. وأفتخر انني لن اقبل في اي يوم ان أتحدث في شؤون الطوائف .. ولكن الاحداث الأخيرة وهزيمة سورية العربية أظهرت بما لاشك فيه المسألة الطائفية على انها عقدة في القلب العربي وأن الدين مشكلة تواجهنا بشراسة منذ اليوم ولن تكون سلاحا بيدنا بل في ظهرنا بيد خصومنا ..
حرب غزة أظهرت ان العرب والمسلمين السنة تحديدا لايريدون تحرير فلسطين وأنهم خرجوا من هذه القضية ولم يحركوا ساكنا وكأنهم صينيون في حرب غزة.. على عكس محور المقاومة الذي كان يتهم أنه شيعي..
سقوط دمشق كان فاجعة ليس لان دمشق تعني ماتعنيه بل لأنه كشف العقل العربي والسني – الحالي- تحديدا وكشف عطبه وعلته .. وهو انه عقل محتل ومختل .. وأنه تم التلاعب به الى حد خطير .. أما كيف انتقل العقل السني من قائد للتحرير والصراع هو الذي كان يحرك الصراع مع القوى الغازية .. الى عقل أسير وساذج وعلى البركة ورهين لفكرة الخلافة وحلم الخلافة رغم انه يمكن ان يبدع انماطا أفضل بكثير من نمط الخلافة القديم الذي لم يعد يتناسب مع العصر .. فهذا أمر قد يبدو واضح الاسباب ولكنه في الحقيقة أمر معقد وسيحتاج عملا جبارا في تحليل نفسية الجماهير ونظريات القطيع ..
من منا يقدر أن ينكر ان العرب السنة هم قادة حركة اليقطة العربية والصراع ضد الاستعمار؟ .. فالعرب السنة عموما أصحاب النهضة العربية او الذين شاركوا فيها بفعالية .. ومنذ الخمسينات كانت الحركات الوطنية العربية عمادها وقادتها من السنة العرب الذين لم يكن لهم صفة السنية على الاطلاق بل كانت لهم صفات وطنية او قومية او تقدمية … وكان الجميع منضويا تحت رايتهم .. ولايقدر احد ان ينكر ان اهم حركة تحرر عربية كانت في مصر الناصرية والبعث في العراق والشام .. أي (باعش) التي حلت محلها (داعش) .. ولاننسى النهوض القومي في شمال افريقيا ومثاله الاشهر قذافي ليبيا الراحل ..
الصدمة كانت عام 1979 عندما انتصرت الثورة الايرانية بقيادة الخميني .. وفي نفس العام كانت مصر العربية قد خرجت من الصراع العربي الاسرائيلي .. وحدث انشقاق وانفصام في الوعي العربي… فالعقل العربي نظر الى انجاز الخميني على انه بفضل تمسكه بشيعيته بينما خرجت القومية العربية من المواجهة مع الغرب بسبب لادينيتها .. وبدأت عملية مراجعة وندم بسبب الانكفاء عن الحلول الاسلامية .. وبدأ التفكير في اطلاق نموذج يشبه النموذج الخميني ولكن بنسخة سنية .. وكانت فكرة الخلافة السنية تتبلور أكثر واعادة الشعور السني بديلا للقومي والوطني تتبلور لحاجة العرب لاطلاق تجربة مناظرة للخمينية .. فالفراغ والشعور بالفراغ من غياب مصر وامتلائه بالثورة الايرانية طرح مشروع المشروع السني نظيرا للايراني الشيعي.
ولذلك فان النخب العربية لم تقدر ان تملأ هذا الفراغ القومي وكانت تحس بالغيرة من الانجاز الايراني وصارت تناصبه العداء من باب الكيدية وتعمل على ربط المشروع العربي بصفة سنية لاشك انها ساعدتها في ذلك الرغبة الكبيرة من الدول الخليجية واسرائيل والغرب .. لأن تجربة أفغانستان أثبتت ان العقل الاسلامي يمكن ببساطة السيطرة عليه عاطفيا لأن العقل الديني – المسلم عموما – وخاصة السني هو ابن المسجد .. والمسجد الذي كان مؤتمرا يوميا للمسلمين يناقشون فيه أمور دينهم ودنياهم تحول في الفترات اللاحقة لصدر الاسلام الى مكان يتم فيه وضع العقل خارج المسجد مع الاحذية .. فالمواجهة الطويلة بين العقل والدين انتهت لصالح الدين المتكلس الجامد الذي تحنّط في الفترة العثمانية لأن العثمانيين لم يكونوا الا قبائل مقاتلة .. لافكر لها ولاتشتغل بالعقل والفلسفة .. فالتعليم الاسلامي صار مهتما بالسيطرة على المسلم ويقضي بتعليمه الاستسلام لرأي الواعظ كما يقول الاخوان المسلمون في وصفهم لطاعة العنصر منهم للمرشد حيث يكون مثل الميت بين يدي من يغسله .. والحقيقة ان ما يتركه المصلون المسلمون خارج المساجد ليست أحذيتهم بل عقولهم التي لاتقدر على التفكير والرفض والجدال .. فخطبة الجمعة مثلا ليست ندوة فكرية يتداول فيها الناس شؤون دينهم بل يتلقون تعليمات وفق قاعدة (بما أن قوة الجيش في نظامه فقد اقتضى ان يحوز الرئيس على طاعة مرؤوسيه التامة) .. وفي داخل المسجد فان العقل يتلقى ويتعلم التلقي والنقل دون نقاش حتى ان العقل المسلم لاحقا وصف بالعقل النقلي .. والعقل المطيع .. لأنه لم يتعلم في المسجد الا السمع والطاعة لوعاظ السلاطين .. وعدم الخروج عن الجماعة ورأي الشيخ .. فعندما كانت المساجد تتحدث عن فلسطين كانت الجماهير العربية تتطوع للجهاد في فلسطين وعندما تغير خطاب الجامع نحو افغانستان تحول الشباب الى أفغانستان ..
وفي الربيع العربي نقل الجامع الشباب والجموع الى العراق وليبيا واليوم الى سورية .. أما من سرق الجامع وسرق الخطبة وسرق الدين فهذا قد نلوم به الغرب الذي كان السارق الحقيقي للدين منذ ان أتى الانكليز بالمسلمين الباكستانيين الى الحرب العالمية الاولى بعد فتوى من واعظ مسلم ..
ولذلك يمكن ان نفهم كيف تراجعت نزعة الكفاح نحو فلسطين واتجهت الى أفغانستان ونيويورك .. وظهر في الربيع العربي ان العقل السني خرج ولم يعد .. فهو يبحث عن شيء واحد هو الخلافة .. وحلت مركزية الخلافة محل فلسطين ومحل اي مشروع تنويري او نهضوي ..
ولذلك نرى ان المجتمعات العربية استجابت بسرعة لدعوة الربيع العربي لأن الدعوة كانت محمولة على شعارات دينية وتحملها مجموعات دينية .. ونفس المجتمعات لم تستجب لفلسطين وغزة .. وتركتها تباد بلا رحمة وبشكل صدم الجميع ..
وتجلى المرض العقلي العربي في نسيانه غزة تماما ولم يرسل الله طير الابابيل على الجيش الاسرائيلي .. وتجلى أيضا في سقوط دمشق حيث سيطرت هستيريا جماعية احتفالا بما اعتبر نصرا الهيا رغم انه نتاج اتفاق دولي وتضافر عمل اميريكي اوروبي اسرائيلي تركي .. وليس للاله اي دور فيه .. فالجولاني سار في نزهة على سيارات الدوشكا علنا وجهارا نهارا تحت أعين القاذفات الامريكية والاسرائيلية والروسية والبريطانية وكل دول الناتو .. ولم تلق عليه حصاة .. ومع هذا فان الجمهور الساذج على يقين انه زمن المعجزات وأن الله أيده بنصره .. وأغشى على عيون الاقمار الصناعية والطائرات كما حدث مع هجرة النبي الى المدينة وغادر بيته في مكة دون ان يلحظه الكفار ..
هذا السقوط المدوي لدمشق وصعود الاسلام المصنع مسبقا في مخابر الدول اكثر ما سيتضرر منه ومما حدث لدمشق هو الاسلام نفسه والمذهب السني الذي صار اسيرا بيد مجموعات متطرفة وكلها تسيطر عليها دوائر استخبارات ستقودها الى مصير مخيف وستقود سنة الشام الى رحلة طويلة من التيه والضياع والهذيان لأن دور السنة الشامية سيكون في خوض صراعات ضد ماهو غير امريكي ستنهكها .. وستعمل الدول التي استولت على القرار السني الشامي على تنشيط مراكز التجنيد للجهاد في بلاد الشام وسيتحول أهل الشام الى مصدرين للجهاديين ويكون الجسم الجهادي القادم من ابناء بلاد الشام ولحوم أبنائهم .. اي باختصار قامت اميريكا بنقل مركز الجهاد الاسلامي من كابول الى دمشق كما نقلت بريطانيا نشاطها الاقتصادي الاسيوي من هونك كونغ الى دبي..
يمكنك ان تلاحظ منذ سقوط دمشق كيف ان فلسطين سقطت بالكامل وان اسم فلسطين غاب تماما عن كل ادبيات وخطابات الثوار .. وحلت محله احلام الخلافة والفقه والشرع الاسلامي ونشر المساجد .. وهذا الغياب الذي بدأ منذ انطلاقة الربيع العربي عام 2011 تحول اليوم الى موت لفلسطين وكل شيء عن تحريرها او نصرتها بل ان الجولاني نفسه دعا الى انهاء الصراع معها والاعتراف بها بتسميتها (الدولة الاسرائيلية) واعلان (تعب السوريين من الحروب) .. وحل الخطاب الديني العنصري الطائفي محل اي شيء له علاقة باسرائيل ..
الفصام الجماعي مستمر وللأسف لن ينقذنا منه الا صحوة ونهضة أهل السنة في الشام قبل ان يفوت الاوان ويتحولوا الى أفغانستان الشرق خلال سنوات قليلة لأن التعليم الديني الذي سينتشر بسرعة وستنسره وتشجع عليه المخابرات التركية والاميرطية لتكون سورية مفرخة جهادية غزيرة الانتاج لايمكن أن ينتج الا عقلا مستسلما للوعاظ .. ومنوما مغناطيسيا ولايجرؤ على اطلاق الاسئلة الكبرى .. فهل تنقذ الكتلة السنية العربية نفسها من هذا الكمين التاريخي .. وتنقذ معها كل الشرق .. وكل الاسلام الذي وقع اليوم في الأسر ..
نارام سرجون