لم تنتهِ المعركة في الجنوب بعد، فإسرائيل مستمرة بالاحتلال والتحليق فوق الأراضي اللبنانية، وقصف أي هدف ترى أنه يشكّل خطراً على أمنها، وهي تسعى لفرض قواعد اشتباك جديدة مع لبنان وحزب الله، والاستمرار باحتلال 7 مرتفعات حاكمة على طول الحدود من اللبونة، وصولاً إلى قمة جبل حرمون اللبنانية.

فبالرغم من امتناع الحزب عن الرد على القصف والاعتداءات الاسرائيلية، يستمر العدوان الإسرائيلي، ويأخذ أشكالاً متعددة، لتثبيت صورة النصر الإسرائيلي وهزيمة حزب الله.

١- خسارة حزب الله

لم يُخطئ حزب لله بوقوفه إلى جانب الحق الفلسطيني، فهذا واجب عربي وانساني واخلاقي، وسبقه إليه منذ زمن بعيد عدة أحزاب وقيادات لبنانية وعربية.

لكن لا شك أن الحزب أخطأ في تقدير الموقف العسكري، وبالغ في الشعور بفائض القوة، والرهان على أن إسرائيل لن تذهب إلى الحرب الشاملة، فحصل ما حصل، وتكبّد الحزب خسائر لا تُعوّض، بالرغم من صمود المقاومين في معظم قرى الحافة الأمامية، وإيقاع خسائر كبيرة بالعدو الإسرائيلي.

لقد خسر الحزب، إضافة إلى أكثر من 7 آلاف شهيد، أمينه العام السيد حسن نصر الله، الشخصية الفذة التي يصعب عليه تعويضها، فما كان يمتلكه السيد نصرالله من صفات قيادية، وقدرة على التأثير في الجماهير، جعلت جمهور المقاومة، وحتى أخصامه وأعداءه، يتسمّرون أمام الشاشات لسماع خطاباته.

وباتت مهمة الحلول مكانه صعبة جداً على الشيخ نعيم قاسم أو غيره، لأن الجمهور سيقارن أي شخصية في هذا الموقع بالسيد نصرالله، ومن الصعب أن ينجح أحد في هذا الامتحان.

وخسر الحزب أيضاً هالة القوة التي رسمها في مواجهة إسرائيل، والتي أقنعت قسماً كبيراً بقدرته على حماية لبنان من أي اعتداء، فإسرائيل لم تقاتل بأسلوبها القديم ولا وفق قوانين الحرب، بل عمدت إلى شن حرب إبادة، مُستخدمةً أحدث التكنولوجيا ،وأشد القنابل الأمريكية فتكاً، ضد المدنيين من بيئة المقاومة، والشيعة تحديداً.

واليوم باتت هذه البيئة بحاجة إلى تعويضات كبيرة، أولها تعويض نفسي ومعنوي، وثم تعويض مادي عن الممتلكات المُدمَّرة، والأمران صعبان على الحزب، خاصة مع تراجع ايران خطوة إلى الوراء، والضغوطات الدولية التي تمارس عليها.

٢- النصر والهزيمة ودولة الطوائف

أخذت معركة مفهومَي؛ النصر والهزيمة، مداها في لبنان، دون أن ينجح حزب الله في إقناع أخصامه ب “نصر البقاء”، ولا نجح أخصامه بإقناعه بأنه هُزم.

والحقيقة أن المسألة ليست بشرح معنى النصر والهزيمة، بين الحزب وإسرائيل، بقدر ما هي مسألة تثبيت أحجام داخلية للأفرقاء اللبنانيين.

فبالرغم من مطالبات كثيرة بالدولة والسيادة، إلّا أن مفهوم الدولة أيضاً يبقى مثار جدل داخلي، حول أي دولة نريد؟ فكل طرف يريد دولته الخاصة، التي تعطيه حق السيادة على الآخرين، والتحكم بهم، واتخاذ القرارات نيابة عنهم.

فلا أحد يريد دولة المساواة والعدالة والقانون، بل يريدون دولة الغلبة والامتيازات الطائفية، وهذا كفيل بنسف أي مسار إصلاحي في البلد.

٣- البيان الوزاري وحرب الكلمات

تناسى قسم من اللبنانيين الاحتلال الاسرائيلي ومعركة الجنوب، وبدأوا منذ أسابيع معركة شعارات جديدة، “جيش شعب مقاومة” أم “جيش شعب بلا مقاومة”، وباتت الآن هذه أم المعارك. ويرى من يرفض إدراجها في البيان الوزاري للحكومة، أنه سيحقق بذلك النصر المظفّر، على فريق المقاومة وحزب الله.

والغريب في هذه المعركة، أن الجميع يعلم أن البيانات الوزارية، منذ الطائف وحتى اليوم ،هي مجرد حبر على ورق، وكل ما يُكتب فيها كان يُمحى “بشخطة قلم”، أما مبارات النواب الخطابية في المجلس النيابي، أثناء مناقشتهم البيان الوزاري، لا تعدو كونها دغدغة لمشاعر المناصرين، وخطاب ترشّح للانتخابات القادمة.

وإن اتّسام بعض هذه الخطابات بالحدّية، أشبه بحفلة زجلية، لإثارة حماسة الجمهور وإلهائه، فبعد “الهَد والقد والصد والرد” يتعانق في نهاية الحفلة الزجالون، ويبتسمون لما امتلأت به جيوبهم، من أموال دفعها هذا الجمهور المتخاصم حتى درجات العداء.

قد يسأل البعض عن الفائدة من حرب الشعارات، والحقيقة هي أنه لا فائدة، سوى التلاعب بعواطف الناس.
فالبعض يعتقد أن شطب عبارة المقاومة من البيان الوزاري، تعني شطب حزب الله من المعادلة، فيما يرى البعض الآخر في بقائها، تثبيتاً لدور المقاومة، وإضفاءً للشرعية عليها.

ولكن الطرفين يخوضان معركة خاطئة في الزمان والمكان والهدف، لأن العبارة، شُطبت أم لم تُشطب من البيان الوزاري، لن تُغيّر في واقع الأمر شيئاً على الأرض.

هذا إضافة إلى أن حق الشعوب في مقاومة الاحتلال، لا يحتاج إلى بيانات وزارية ليكتسب شرعيته، فهو منصوص عليه في شرعة الأمم المتحدة، ويكتسب شرعيته المطلقة من الإرادة الوطنية للشعب، في مقاومة الاحتلال.

٤- معركة الحدود الشمالية

وفي ظلال سيوف الشعارات المسلولة على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، تدور معركة أُخرى في شمال لبنان، داخل الأراضي السورية وعلى الحدود، حيث يوجد عدة قرى شيعية سكانها لبنانيون، من العشائر التي تعمل في الزراعة والتهريب منذ سنوات، ورغم أن حزب الله لم ينخرط في المعركة بشكل علني، لكن لا شك أن قسماً كبيراً من العشائر، هم من الموالين للحزب.

المعركة بدت حقيقية، فهناك قصف بالدبابات والمدفعية والراجمات، وطائرات مسيّرة، واحتلال قرى، وتحرير أخرى، وأسر وتبادل أسرى، وكل ذلك دون دور كبير للدولتين اللبنانية والسورية، وكأن العشائر وهيئة تحرير الشام، شكّلا دولتين مستقلتين، ومنفصلتين عن لبنان وسوريا.

أرسل الجيش اللبناني تعزيزات إلى المنطقة، ورد على مصادر النيران التي طالت الأراضي اللبنانية، ونزح القسم الأكبر من اللبنانيين من تلك القرى، وعادوا إلى الأراضي اللبنانية، لتُفتح الآن بشكل جدي وكبير، مسألة ضبط الحدود، وإغلاق كافة المعابر غير الشرعية ووقف التهريب.

يبدو أن معركة الشمال فُتحت قبل أن تنتهي معركة الجنوب، وهناك من بدأ يطالب بنشر اليونفيل على الحدود اللبنانية السورية.

٥- معركة الإصلاح والوظائف

وكذلك هناك معركة؛ الشعارات، والانتخابات، والمناصب، والتوظيف، واحتكار حقوق الطوائف في يد المتسلطين عليها، الساعين إلى تكريس هذه الأعراف المذهبية، التي منعت وستبقى تمنع قيام دولة حقيقية في لبنان .

إن كل ذلك يحدث باسم الإصلاح، ومكافحة الفساد، وبناء الدولة وبسط سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية.

ويرى البعض أن على الحكومة الجديدة أن تتبنى شعار ” جيش شعب خماسية”، فهذا بات واقعياً، ويلقى شعبية كبيرة بين القوى السياسية التابعة للخارج، والكل يعلم أنه لولا تدخل الخماسية، لما ابصرت الرئاسة ولا الحكومة النور في لبنان.

ونحمد الله أنه لم يطرح البعض شعار “جيش شعب لحد”، لأن هناك من يحن على ما يبدو، إلى تلك المرحلة ، فشبكات العملاء منتشرة بشكل واسع في لبنان، وما كشفته الأجهزة الأمنية، هو جزء قليل من صغار العملاء، فمن المعروف في عالم المخابرات، أن كبار العملاء يصعب كشفهم، إلّا اذا تخلى عنهم المشغلون.

ورغم وضع معيار “خريج الجامعة الامريكية” كشرط للتوزير، ونيل الجنسية الأمريكية أو الغربية، كعلامة نجاح أو رسوب، يبقى هذا الغرام بأمريكا مفهوماً، ومن حسن الحظ أنه لم تكن العلامة لاغية، في امتحانات التوزير في الحكومة العتيدة، لأنه وفق المعلومات هناك 15 وزيراً، نجحوا في شرط امتلاك الجنسية الغربية، وتسعة من حملة الجنسية اللبنانية.

ورغم كل المصاعب والمطبات، يبقى أن لدى اللبنانيين على مختلف مشاربهم، ثقة كبير بالعهد الجديد، الذي بدأ بانتخاب الرئيس جوزاف عون، وتشكيل حكومة الرئيس نواف سلام، والسيرة الوطنية الحسنة لكل وزرائها.

وكان لاختيار الرئيس سلام، “تلفزيون لبنان” ليطل من خلاله أول اطلالة له على اللبنانيين، وحديثه الصريح، ومواقفه الجريئة، دلالة واضحة على الاهتمام بالقطاع العام، واستنهاض مؤسسات الدولة، والالتزام بتطبيق الدستور والقوانين.

الجنرال اكرم كمال سريوي