بمناسبة الذكرى ٧٢ لثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ التي حلت علينا منذ أيام، تجدد الهجوم على الثورة وقائدها، وكأن مصر توقفت فيها الحياة على ما يزيد عن سبعة عقود على قيام الثورة، وما يزيد عن خمسة عقود على رحيل قائدها، ويحاول أعداء الثورة وقائدها نسبة كل نقيصة لهما، ويحاولون إيهام العقل الجمعي المصري والعربي بأن كل ما يحيط بنا من أزمات اليوم هو نتاج هذه الثورة، ونتاج تهور قائدها الذي لم يحقق منجز واحد على مدار سنوات حكمه، وبالطبع يرى البعض أن الرد على هؤلاء السفهاء من الأفضل أن يكون بالصمت، لكننا نرى أن الكلمة أمانة ومن يمتلك المعلومة الصحيحة عليه أن يعلنها، خاصة للأجيال الجديدة التي لم تعش هذه المرحلة، ولم تقرأ عنها في وثائقها الموثوقة، فالغالبية العظمى من هذه الأجيال تتلقى معلوماتها من السوشيال ميديا أو مواقع التواصل الاجتماعي، التي أصبحت أهم وسيلة لتشكيل الوعي في عالمنا اليوم، لذلك يجب تصحيح الوعي الزائف التي تقوم به الكتائب الإلكترونية المعادية لثورة يوليو وقائدها، من خلال نشر وعي صادق وحقيقي، وبالطبع لا يتسع المجال في هذه المساحة للحديث عن مشروع ثورة ٢٣ يوليو بالكامل، لكننا سوف نركز على أحد أهم القضايا التي تبناها المشروع وهي قضية العدالة الاجتماعية الفريضة الغائبة في عالمنا اليوم، وبالطبع ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن هذه القضية، لكننا سوف نعيد التذكير بما كتبناه مراراً وتكراراً، ” ذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ” آية ٥٥ سورة الذاريات.

تعد العدالة الاجتماعية واحدة من أبرز القضايا التي احتلت مساحة واسعة في مشروع ثورة ٢٣ يوليو وشغلت فكر قائدها جمال عبد الناصر، وقد تبلورت فكرة العدالة الاجتماعية لدى جمال عبد الناصر قبل قيامه بثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، حيث أدرك حقيقة المجتمع المصري الذي عرف بمجتمع النصف في المائة ذلك النصف الذي يسيطر على الثروة والسلطة والنفوذ مقابل السواد الأعظم من المصريين الذين يعيشون في ظروف صعبة للغاية ومعاناة في توفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة.

ويلخص جمال عبد الناصر أحوال المجتمع المصري عشية قيام الثورة في إحدى خطبه حيث يقول : ” 500 مليون جنيه مع 700 واحد .. طب وال 27 مليون عندهم أيه .. ده الوضع اللي ورثناه .. ده الاشتراكية لما يبقى فيه عدالة اجتماعية .. لكن مش العدالة الاجتماعية ولا المجتمع اللي نعيش فيه واحد يكسب نص مليون جنيه في السنة .. وبعدين كاتب لأولاده أسهم كل واحد نص مليون جنيه .. طب والباقين الناس اللي ليهم حق في هذه البلد .. أيه نصيبهم في هذه البلد .. يورثوا أيه في هذه البلد .. لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون الغنى أرثاً والفقر أرثاً والنفوذ أرثاً والذل أرث .. لكن نريد العدالة الاجتماعية .. نريد الكفاية والعدل .. ولا سبيل لنا بهذا إلا بإذابة الفوارق بين الطبقات .. ولكل فرد حسب عمله .. لكل واحد الفرصة .. لكل واحد العمل .. ثم لكل واحد ناتج عمله “.

وتكشف كلمات جمال عبد الناصر كيف كانت أحوال المصريين ؟ وكيف كانت الخريطة الطبقية ؟ وتكتشف أيضا رؤيته الثاقبة وقراءته النافذة التي مكنته من وضع يده على الجرح العميق في جسد المجتمع المصري، وقدرته الفائقة على التشخيص السليم ووضع روشتة العلاج، والذي تمثل في تحديد الأولويات التي جعلت من العدالة الاجتماعية الحل الأمثل التي لا يمكن أن تتحقق إلا بتذويب الفوارق بين الطبقات، لذلك جاء مشروعه المنحاز للفقراء منذ اللحظة الأولى ليوجه ضربات قاسمة إلى الاقطاعيين والرأسماليين والأجانب الذين لم يتجاوز عددهم 700 شخص كانوا يحوزون الثروة والسلطة والنفوذ، فكان قانون الاصلاح الزراعي وقرارات الـتأميم والتمصير ثم القرارات الاشتراكية، وهو ما أتاح الفرصة لتذويب الفوارق بين الطبقات، وإتاحة فرص التعليم والعمل أمام الجميع وهو ما حقق مجتمع الكفاية والعدل، حيث تغيرت الخريطة الطبقية للمجتمع المصري ونمت الطبقة الوسطى بشكل غير مسبوق في تاريخ المجتمع المصري.

ويشكل قانون الإصلاح الزراعي التعبير الحقيقي عن العدالة الاجتماعية في فكر جمال عبد الناصر ومشروع ثورة ٢٣ يوليو، فقد كان وضع الملكية الزراعية في مصر سبباً رئيسياً لبؤس الفلاحين وهم الغالبية العظمى من المصريين في ذلك الوقت، ففي عام 1952 عشية الإصلاح الزراعي كان المالكون لأكثر من 200 فدان أقل من 1 % من إجمالي عدد ملاك الأراضي الزراعية ويملكون 30 % من إجمالي مساحة الأرض الزراعية، في حين بلغت نسبة الذين يملكون أقل من خمسة أفدنة 94 % بنسبة 35 % من إجمالي المساحة، أما نسبة ال 35 % الباقية من جملة مساحة الأرض الزراعية فكانت موزعة بين ملكيات أقل من 200 فدان إلى أكثر من خمسة أفدنة وبلغت نسبتهم 5 %، لذلك جاء قانون الإصلاح الزراعي بعد 46 يوماً فقط من الثورة ليقول جمال عبد الناصر للفلاحين الذين يشكلون السواد الأعظم من الشعب أنني معكم أشعر ببؤسكم، وما جئت بثورتي إلا من أجل رفع الظلم عنكم وتحقيق العدالة الاجتماعية التي عشتم تحلمون بها.

وتجسدت فكرة العدالة الاجتماعية لدى ثورة يوليو وقائدها جمال عبد الناصر في الاستجابة السريعة للفقراء والكادحين والقدرة على فهم احتياجاتهم دون تصريح، ففي إحدى زياراته لصعيد مصر توقف القطار في إحدى المحطات ففوجئ جمال عبد الناصر ومرافقيه برجل بسيط يصيح ” أنا جابر السوهاجي يا ريس ” ويلقى بصرة داخل الديوان الذي يقف فيه عبد الناصر ورفاقه وقعت بين أرجلهم وتملك الحضور بعض من الارتباك نتيجة المفاجأة، وسارع أحد ضباط الحراسة الخاصة بالتقاط هذه الصرة بحذر، وبدأ في فتحها وكانت المفاجأة أن الصرة لا تحوي غير رغيف من الخبز الناشف ( بتاو ) وبصلة ناشفة في منديل يعرف في التراث الشعبي لدى أهل الريف بالمحلاوي، ولم يفهم أحد من الحضور لماذا رمى الرجل بهذه الصرة ؟! إلا أن جمال عبد الناصر كان الوحيد الذي فهم معنى الرسالة، وأطل برأسه بسرعة من القطار الذي بدأ في السير وأخذ يرفع صوته في اتجاه الرجل الذي ألقى بالصرة قائلا له : ” الرسالة وصلت يا أبويا، الرسالة وصلت “، وفور الوصول إلى أسوان طلب جمال عبد الناصر تقريراً عاجلاً عن عمال التراحيل وأحوالهم المعيشية، وفي خطابه مساء نفس اليوم لجماهير أسوان قال : ” يا عم جابر أحب أقولك إن الرسالة وصلت، وإننا قررنا زيادة أجر عمال التراحيل إلى 25 قرشا في اليوم بدلا من 12 قرشا فقط، كما قررنا تطبيق نظام التأمين الاجتماعي والصحي على عمال التراحيل لأول مرة في مصر”.

ولم يكتفي قائد ثورة ٢٣ يوليو بتطبيق العدالة الاجتماعية على شعبه بل تجسدت في حياته اليومية داخل أسرته، فلم يسمح لأبنائه أن يتعلموا إلا في المدارس الحكومية مثل غالبية أبناء الشعب المصري، ومن لم يتمكن من النجاح والتفوق لم يحصل على استثناء، فعندما نجحت أبنته منى في الثانوية العامة ولم تحصل على مجموع يؤهلها لدراسة الهندسة بجامعة القاهرة عبر مكتب التنسيق الذي أنشأه لتحقيق العدالة بين أبناء المصريين، وطلبت وساطة محمد حسنين هيكل لدى عبد الناصر لعمل استثناء رفض بشدة، وفي نفس العام دخل ابن سائقه الخاص كلية الهندسة جامعة القاهرة، ودخلت ابنته كلية الهندسة بالجامعة الأمريكية وكان يلتحق بها الذين لم يحصلوا على مجاميع تمكنهم من دخول الجامعات الحكومية، وتحملت الأسرة أعباء إضافية ليتمكنوا من دفع مصروفات الجامعة الخاصة.

ولم تكن هذه هي الواقعة الوحيدة في حياة قائد ثورة ٢٣ يوليو بل تعددت الوقائع المؤكدة لتطبيقه لمبدأ العدالة الاجتماعية على المستوى الشخصي قبل تطبيقها على عموم المصريين، فمثل كل الآباء من الموظفين الذين ينتمون للشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، والذين لديهم عدد كبير من الأبناء بنين وبنات، وينفقون كل دخولهم على تربية الأبناء، وعندما تصبح البنات في سن الزواج ويتقدم لهن أحد الشباب للزواج يكون على الأب أن يقوم بالمشاركة في إعداد بيت الزوجية على عادة المصريين، ويجد الأب نفسه في مأزق لأنه لم يدخر شيء لهذا اليوم، ويضطر غالباً للاستدانة، وعندما جاء هذا اليوم على جمال عبد الناصر وكان عليه أن يشارك في تجهيز بيت الزوجية لكريمتيه هدى ومنى اضطر أن يستبدل معاشه كأي موظف في الدولة لكي يتمكن من الوفاء بمتطلبات الزواج.

هذه بعض ملامح العدالة الاجتماعية في مشروع ثورة يوليو وفكر قائدها جمال عبد الناصر سواء على المستوى العام أو الخاص، لذلك لا عجب أن يبقى في ذاكرة جموع الفقراء فقد انحاز لهم قولاً وفعلاً، واتخذ من أجلهم العديد من الاجراءات الحاسمة، ودخل في العديد من المعارك لإنصافهم، لذلك لازالت جموع الفقراء في كل بقاع الأرض تعتبره رمزاً للعدالة الاجتماعية، وفي ذكرى ثورة يوليو هذا العام وفي ظل الهجوم الكاسح على الثورة وقائدها كالعادة تفاجأ المصريين بزيادة جديدة في أسعار المحروقات ستنعكس حتماً على كل أسعار السلع والخدمات بما يفوق قدرات الغالبية العظمى من المصريين على تحملها، لذلك لا عجب أن يجدد الفقراء عهدهم مع ثورتهم الأم وقائدها، الذي حقق لهم العدالة الاجتماعية المفقودة، خاصة وأن الخريطة الطبقية اليوم تذكرنا بالخريطة الطبقية عشية قيام ثورة 23 يوليو 1952، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

د. محمد سيد أحمد