إذا المقاومة أطلقت طوفانها، وأعلنت الأرض عصيانها، ولامس شهيق الطفل أطراف السماء، وتلا الشهيد تراتيله المقدسة، وساح حديث غزة وإخوتها في شرق الأرض وغربها كالماء،، قف على خط استواء المقاوم، وابدأ خطوتك مداً وعداً وهتافاً وصلاة،،

المقاتل …

يحمل رشاشه ويتقدم.. لا نراه ولكن نستشعر خطاه،، وبوثبة فهد يصيب مرماه، يقفز انتشاءً ويطلق صيحة المنتصر، ويختفي ليتجلى مرة ومرات، ويعيد الكرّة ويصيب، الهدف الأول فالثاني فالتالي ولا حد للعد، ثم يختفي مرة أخرى ووراءه أكوام القتلة أشلاء، يكبر ويهلل، ولا نراه لكن نسمع صوت انفجار وعويل القتلة، لا خوذة تحميه ولا درع يقيه ولا نعل جلد، ولا فرقة من الأمام أو الوراء، ولا اليمين ولا الشمال، وحيداً يحمل روحه قرباناً، يتصيد عدوه بسكون وحذر وانتباه.. نظره يمسح الأبعاد الأربعة وما فوقهما وما تحتهما، وسمعه يلتقط تردد الأصوات مثل مجسات قرون فراشات وهوائيات، وجسمه يستشعر الحركة المحيطة به كمغناطيس لاقط، قدماه لا تلامسان الأرض بل تطفوان فوقها وتتنقلان بسرعة الريح وخفة النسيم، يزحف، ينقلب، يثب، يتوارى، يغيب، يظهر، لا نراه لكن نتخيل مروره وتدفقه ناراً ودماراً على القتلة،،يطلع من باب أو من شرفة، ومرات من كوة، وأحياناً من ثقب غائر، ونلمحه عائداً يتدحرج لغور الأرض كأنه زاحفة بلا هيكل عظمي، بل عضلات تتمدد وتتعدد، وتلتوي وتستوي، مع قعر أنفاق غطاء ووعاء وفداء..

هل مر القسام من هنا؟؟..لا أحد رآه أو شاهد مسراه، بل خلنا أن ظلاً تسلل في حائط ثم صار حجراً. هل مر المحارب من هناك؟؟ بلى هب ثم اختفى، وخلفه نمر يحترق، وجثث للقتلة وآمرهم يختنق، وفرار وعواء وغبار وبقايا دخان ونار، ومن هناك احتجب.. ولم نره،،في رأسه هندسة الأرض كاملة والاتجاه، يميناً ويساراً، أماماً ووراء، صعوداً واشتياقاً، والعقل مَشْغل لقواعد رياضية، جبر وإحصاء وقياسات، كل شي بحساب ولا شيء مصادفة، كل شيء بحساب، ودقة الحساب عنده نبوغ ونظر ينفذ لما وراء الوراء،،إنه المقاتل، إنه المقاوم الطوفاني الفاتن المفتون، والثائر المنتقم الظافر برؤوس قتلة الأطفال.

السلاح والاكتساح …

كل شيء بحساب، الخطوة بحساب، الركض بحساب، الانسحاب بحساب، السلاح بحساب، العبوات بحساب، الرصاص بحساب، النيران بحساب، المتراس بحساب، المواقع بحساب، التصويب بحساب، الإطلاق بحساب، الحصاد بحساب، الأشجار بحساب، الأحجار بحساب، المصائد بحساب والكمائن بحساب، حتى النصر بحساب، والتفوق بحساب، الزمن يُحسب بالنفس لا بالدقائق، ولكل مقاوم ساعة تطوق المعصم المقدس، تعمل ضمن شبكة مرتبطة بنظام دقيق من الاتصال الزمني، والإشعار المتصل المتواصل والمتناسق في أعلى الدرجات، الأنفاق بحساب، الأمتار بحساب، الأعراض والأطوال بحساب، العمق بحساب، خريطة المرور بحساب، العوارض بحساب، مسرى المياه بحساب، نور السماء بحساب، الطعام والشراب بحساب، الأنفاس بحساب، الهدوء بحساب، والحركة بحساب، البقاء بحساب والتوزع في الفضاء بحساب، وعقل مدبر ونبوغ ملهم لم يسبق في التاريخ مثيل له،،هكذا هي إدارة السلاح والاكتساح في أنفاق غزة الطوفان، لا شي خارج نسق حسابيات بالنانومتر تُحدَّد، وخطط تجهز بميزان الذرة، برؤيا تثقب الزمن وتخترق الحصون.. كلمة السر: توكلنا على الله والله أكبر..

المدينة …

ليل غزة غيم ودخان وانفجارات في كل آونة ومكان، ليل غزة انتظار للفجر ودعاء وابتهال، عند الصبح تجمع غزة شهداءها وتنفض الغبار عنهم، تحملهم معانِقةً للدفء الأخير، وتواريهم ثرى البلاد، وتسجل في الدفاتر الأسماء والهوية، ألف، ألفين، ثلاثة ألاف، صاروا عشرة، لا بل خمسين، فهل من مزيد، ليل غزة أمانٍ واختباء، وصباحها طلب أبدي للحياة، ولا غير الحياة، تقف الأمهات في غزة للزغاريد في مواكب دفن أبنائها الشهداء، ويجثو الطفل على جثمان أمه تضرعاً وبكاء، وتنحبس دمعة في عين شيخ فيحمل مفتاح العودة عالياً ويعلن أن الشهداء أحياء، وأن الموت في غزة ممر إجباري للحرية والحياة، يتجمع الغزاويون رافعين شعار: “حط السيف قبال السيف واحنا رجال محمد ضيف”، يتجمع شباب غزة وزينتها أمام البحر وينشدون أهازيج الوطن، يلعب الأطفال فوق الرمال وأزيز طائرات الموت يغزو السماء فلا يعبؤون، يفتش الغزاويون عن الماء فيحفرون الأرض ويتدفق مدراراً، يبحثون عن حجر ويربطون بطونهم ويكبرون، “مش طالعين”، “كلنا مع المقاومة”، “كلنا مشاريع شهداء”..يخترع طفل مروحة هوائية لإنتاج الكهرباء فينير بها خيمة وخيام، يجتاز تلاميذ غزة امتحاناتهم في فوضى الأنقاض وينجحون بامتياز، يتبادلون التهاني، يناقش طالب أطروحة الدكتوراه في تكنولوجيا النانو، ويتفوق وسط خيمة وفي القلب غصة، وفي البال عهد لغزة المدينة المعجزة،مدينة الطوفان

غزة الغازية …

للعدو سقط أكثر من 2500 قتيل وأسرت المقاومة أكثر من 250 ومن الرتب العالية،50 ألف جريح ومعاق ومصاب بصدمة المعركة من جند العدو، أكثر من 4000 جندي وضابط احتياط يرفضون التطوع، إضافة الى الحريديم، 400 طيار يرفضون أداء الخدمة،مئات الآليات والمجنزرات والدبابات وحاملات الجند والعتاد تحول الى ركام من صديد.نصف مليون مستوطن ترك المنزل قسرياً، وغادر دون رجعةٍ أكثرُ من نصف مليون إلى وجهة ما خارج حدود الكيان، تشتتت الوحدة الداخلية للكيان المغتصب وتضاربت المصالح والمواقف والتصريحات وتزايدت الصراعات وتأزم القرار، خرجت “إسرائيل” من قائمة الدول العشر الأوائل التي يهاجر إليها أصحاب الملايين لأول مرة منذ عدة عقود، وهربت الاستثمارات منها، بل أن الاستثمارات المحلية حولت وجهتها، تعطل الاقتصاد وتوقفت عجلة الإنتاج، لا سياحة ولا ملاحة، أغلقت المكاتب والمدارس والشركات، وتوقفت الحياة، بدأت الملاجئ تستقبل الهاربين المذعورين دون سبب، وفي الأثناء الشوارع تنادي بإسقاط حكومة الهزيمة والانهيار.أُسقط قرارُ التطبيع وانفضح مشروع الإبراهيمية، وانتصرت الحقيقة الفلسطينية. وأصبح القائد الفلسطيني المرجع والمثال الذي يُتباهى به، وارتفع شعار “من النهر الى البحر” في كامل أرجاء العالم، وانقسمت حكومات في الغرب حول غزة، وانكسرت تحالفاتٌ وانفضحت مشاريعُ الهيمنة والاستكبار، وعصاباتُ الفساد والإفساد في أعتى حكومات الغرب المتصهين.

غزة الغازية تحمل أوجاعها وجراحها عند الفجر وتقاتل، وتستقبل ليلها متلحفة بطوفانها وتحلم بصباح جميل. غزة المدينة المعجزة نفاثة أكسجين لعالم اختنق بالمحرقة.

هند يحيى _ تونس 🇹🇳