النبي العظيم
… وفي أقل من مئة عام من وفاة الرسول العربي الكريم، محمد بن عبدالله، وهي فترة قصيرة جداً بمقاييس الزمن التاريخي، كانت الدعوة المحمدية، الإسلام، قد انتشرت من ساحل المحيط الأطلسي غرباً، الى مدينتي تشوانتشو (مدينة الزيتون كما سماها العرب) وغوانزو (كانتون) على ساحل بحر الصين الجنوبي، شرقاً (1). كان انتشار الإسلام وانتصاره مدهشاً جداً، لكل من يعرف ولو قليلاً في التاريخ وعن التاريخ (حتى الإمبراطورية الأميركية احتاجت لضعف هذا الوقت لتتصدر المشهد العالمي في العصر الحديث). كان انتشار الإسلام السريع وسقوط الإمبراطوريات الكبرى أمام الجيوش الإسلامية من جهة، وانتشار واعتناق الإسلام عند شعوب كثيرة عن طريق التجارة (في الشرق خصوصاً) من جهة أخرى، مذهلاً، ويجب أن يكون مذهلاً لأي مؤرخ يكتب تاريخ مرحلة بعيدة أو حتى لمتابع عاشها– كان الصحابي سلمان الفارسي قد علق مرة على مشهد الاقتحام الصعب لجيش المسلمين وعبورهم نهر دجلة على ظهور الخيل، كما نقل الطبري في «أخبار فتح المدائن»: «الإسلام جديد. ذللت والله لهم البحور كما ذلل لهم البر». لم يكن سلمان يتحدث كمسلم فقط، بل كتلميذ للتاريخ والأديان أدهشه مشهد ومشهدية انتشار الإسلام وصعود العرب إلى قمة العالم.

لذلك، ولأسباب أخرى كثيرة، لم يكن ظهور الإسلام وانتشاره في تاريخ العالم حدثاً عادياً، أو كأي حدث تاريخي آخر. «فلم يحدث في كثير من الأحيان في التاريخ أن تتمكن حركة دينية، نشأت في منطقة فقيرة وهامشية من العالم، وخلال جيل واحد فقط، من اجتياح أهم مراكز القوة الرئيسية في العالم المعروف، ثم تُثبت بعد ذلك أنها أكثر من مجرد غزو قصير العمر، أو مجرد موجة انحسرت بسرعة كما تقدمت بسرعة (كما حدث مراراً). على العكس، فلقد تركت دعوة النبي الكريم بصماتها على أكثر من أربعة عشر قرناً من التاريخ في أكثر من ربع العالم، وعلى كامل نطاق الثقافة والمجتمع. فما بدأ كدعوة لدين أدى في فترة بسيطة إلى تأسيس دولة كبرى، وحتى عندما انحلت هذه الدولة بعدها بقرون، خَلَّفَتْ وراءها ثقافة أدبية، نظاماً قانونياً، وتنظيماً للحياة الاجتماعية ومُثلاً أخلاقية ساعدت في تشكيل طبيعة مناطق شاسعة جداً تتجاوز بكثير تلك التي شملتها الدولة أصلاً» (2).
المدهش جداً في هذه المسيرة العظيمة والتاريخية للإسلام، هو أن هذه الحركة الهائلة والتطور المدهش لشعوب، أفكار، قوانين ومؤسسات، تبدو، ويجب أن تبدو، كأنها نشأت في التحليل الأخير من رجل واحد، قادم من الحدود البعيدة للعالم المتحضر في عصره، استطاع، رغم كل شيء، أن يدمغ أثره على عصور وشعوب عديدة بعيدة جداً عن عصره وعن شعبه. (3)
لهذا، كان الرسول الكريم، المؤسس لهذا المشهد الإنساني العالمي العظيم، مدهشاً جداً. فمواصفاته الشخصية، «التركيب النفسي الخاص» به، و»الظروف الاجتماعية في زمانه ومكانه»، مكّنته، هو فقط وهو بالذات، «في منعطف تاريخي محدد ومفصلي من إحداث تأثير تاريخي دائم ومستمر على نطاق عالمي». كان النبي محمد مدهشاً جداً. «فسماته الشخصية الناشئة عن بنيته النفسية وتاريخه الشخصي»، أعدته، هو فقط ووحده دون غيره، لتلقي الوحي والرسالة، ومكنته أيضاً من إدراك كيف ولماذا كانت هذه الرسالة متوافقة بما فيه الكفاية مع احتياجات محيطه ليتم استقبالها بحماس»، أولاً من قبل مجموعة صغيرة مظلومة ومضطهدة ناصرته ونصرته (وقادها من العبودية إلى الحرية ولاحقاً حكم العالم)، ثم من قبل كل شبه الجزيرة العربية، ولاحقاً العالم. (4)
هذا النبي المدهش جداً، محمد بن عبدالله، هو جد نبينا الشهيد المدهش جداً، السيد حسن نصرالله.

أنبل العرب: سرّ الشهيد نصرالله
…. وفي السابع والعشرين من أيلول ٢٠٢٤، قَدَّمَت المقاومة الإسلامية في لبنان (حزب الله)، والأمتان العربية والإسلامية، وقوى الثورة العالمية، التضحية الأقصى والأقسى والأكبر والأصعب والأغلى، من أجل تحرير فلسطين، ودفاعاً عن الأمة ومن أجل تحريرها ووحدتها. ونعرف يقيناً، لا شك فيه، أنه ليس بعد هذه التضحية، ولن يكون أبداً، ما هو أكبر أو أصعب أو أغلى أو أشد إيلاماً ووجعاً على أمتنا أن تقدمه على هذا الطريق الصعب والطويل والمؤلم. ولأن أمتنا قدمت، بشهادة السيد نصرالله، أكثر مما قدمت أو يمكن أن تقدم أو أن تضحي في أي وقت قبلها أو بعدها، فإننا نعرف يقيناً أيضاً، أنه رغم صعوبة المعركة وأوجاعها، ورغم التضحيات الهائلة التي دفعت أمتنا أغلاها وأصعبها وأكبرها وأشدها إيلاماً ووجعاً باستشهاد سيد المقاومة، أن حلمه بالصلاة في القدس وتحرير فلسطين والأمة أمامنا بلا شك، وأقرب إلينا بفضله من أي وقت مضى، وأن دمه الشريف جعل أفق هذه المسيرة ومسارها أكثر وضوحاً وبياناً ويقيناً لمن لم يختم الله «على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة».
في السابع والعشرين من أيلول، نال منا العدو كما لم ينل منا من قبل وكما لن ينال منا من بعد، وآلمنا جداً، وجرح قلوبنا عميقاً جداً كما لم يحصل لنا من قبل وكما لن يحصل لنا من بعد. كان الوجع كبيراً جداً وسيظل معنا أبداً، وكان الجرح عميقاً جداً وسيظل محفوراً كالوشم في قلوبنا أبداً. فنحن لم نعشق حد القداسة زعيماً عربياً وقائداً مقاوماً بحق كما عشقنا شهيدنا الأعز والأحب. وإن كان لهذا الفقد وهذا المصاب العظيم من عزاء، وليس في كل هذا العالم من عزاء ولن يكون، فهو أن شهيدنا الأعظم رحل إلى جوار ربه، وترك المقاومة وترك الأمة في مكان أفضل كثيراً، أقوى كثيراً، ومتقدم جداً، في مواجهة الأعداء، لم نكن حتى لنحلم أن نكون فيه في أي يوم قبله أو قبل قيادته لحركة التحرر العربية. وإن كان لهذا الفقد ولهذا المصاب العظيم من عزاء، ولن يكون، فهو أن السيد ترك خلفه الإنجاز الأعظم لأي قائد عربي ومسلم لقرون خلت. كان السيد نصرالله، بلا جدال ولا مبالغة، القائد العربي والمسلم الأعظم والأكثر عبقرية لقرون خلت، وقدم خلال حياته الشريفة الإنجاز الأعظم في تاريخ الفكر والفعل الثوري العربي والإسلامي لقرون خلت، بل، وربما، الإنجاز الأعظم في تاريخ الفعل والفكر الثوري الإنساني كله في العصر الحديث. فالسيد الشهيد كان الصوت والعقل واليد الضاربة لمئات ملايين المهمشين والمضطهدين والمظلومين من العرب والمسلمين وغيرهم من اخوتنا في الانسانية الذين أريد لهم أن يظلوا أبداً خارج التاريخ، عبيداً في أحسن الأحوال لمن يبقى منهم على قيد الحياة، فأصبحوا معه وخلف قيادته النموذج الثوري الأعظم في التاريخ الحديث الذي يؤرق أعتى الإمبراطوريات.

كانت مهمة السيد الشهيد نصرالله لإعادة تشكيل ثورية للروح العربية والإسلامية أعقد بما لا يقاس من أي تجربة ثورية أخرى لأي من حركات التحرر الأخرى في العالم

وإن كان لهذا الفقد ولهذا المصاب العظيم من عزاء، ولا يمكن أن يكون، فهو أن شهيدنا الأعظم رحل إلى جوار ربه، بعد أن جعلنا جميعاً، أفراداً وجماعات، أفضل وأقوى وأشرف وأكثر كرامة وإنسانية واستعداداً للاستمرار حتى النهاية من أي وقت مضى في الذاكرة الحية لأمتنا. فنحن جميعاً، أفراداً وجماعات، ندين له جداً أننا أصبحنا بشراً أفضل وعرباً أفضل ومسلمين أفضل، وأيضاً مقاومين أفضل. فمعه أصبحنا نفتخر جداً بعروبتنا لأنه العربي الأنبل، وبإسلامنا لأنه المسلم الأجمل، وبإنسانيتنا لأنه الإنسان الأرقى.
رحل شهيدنا الأعظم بعد أن أعطى لأمتنا أقصى ما يمكن لأي إنسان أن يعطي أمته، ثم أعطاها حياته الشريفة. رحل شهيدنا الأعز بعد أن أعطى أمتنا كلها أهم ما تحتاجه في أصعب اللحظات في تاريخها: أعطاها الأمل ورسم لها الطريق ووفر لها الأدوات والقوة. أعطانا الأمل بالنصر وتحرير القدس وفلسطين والأمة، رسم لنا الطريق للنصر وتحرير القدس وفلسطين والأمة، وأيضاً وفّر لنا أدوات النصر والقوة لتحرير القدس وفلسطين والأمة التي أصبحت في ظل قيادته الفذة للمقاومة العربية، وفي فترة قياسية جداً، ممكنة جداً واقعياً وتاريخياً بعد أن كانت تقارب المستحيل قبل سنين فقط.
كيف يمكن لرجل واحد أن يفعل كل ذلك وأكثر؟ كيف يمكن لأي إنسان أن يفعل كل ذلك وأكثر؟
كل بطل وقائد استثنائي عرفه التاريخ كان كذلك لأنه كان يجسد روح التاريخ وروح العصر والتقدم الإنساني في حقبته ومحيطه بطريقة لا يمكن لغيره من جيله أن يجسدها مثله. لكن، لو قرأت أو سمعت عن كل الأبطال الاستثنائيين في التاريخ الحديث، ستعرف أن شهيدنا الأعظم كان الأكثر استثنائية بين كل الاستثنائيين. فيمكن القطع دون أدنى شك، أن المهمة التي تصدى لها السيد الشهيد والتحديات الرهيبة التي واجهها هو ورفاقه في لبنان وفلسطين والمنطقة منذ البداية كانت غير مسبوقة في تاريخ كل حركات التحرر. فهو لم يتصد فقط لمقاومة مشاريع استعمارية أو استعمارية استيطانية أخرى يكون للانتصار فيها تبعات محدودة محلياً أو إقليمياً بالحد الأقصى، كما أغلب حركات التحرر السابقة في كل مجتمعات الجنوب. بل كان يواجه المنظومة الغربية الاستعمارية مجتمعة، وبنية السلطة الكونية مجتمعة، لما لتحرير فلسطين والعرب والمسلمين من تبعات على مستقبل العالم كله. إضافة لذلك، كان عليه أن يفعل كل ذلك وينتصر في لحظة رِدَّة ثورية عربية وعالمية في مطلع التسعينيات، ومواجهة تحالف عربي رسمي-صهيوني-غربي، وخذلان عربي شعبي لحركات المقاومة التي كانت تواجه حرب إبادة بعد ذلك. فحين أصبح شهيدنا أميناً عاماً خصوصاً، كان عليه أن ينجز ما يقارب المستحيل بعد أن أعلنت الولايات المتحدة والمنظومة الغربية انتصارها الحاسم على كل العالم وأعلنت نهاية التاريخ.
فوق كل ذلك، كان على السيد الشهيد أن ينجز هذه المهمة التي تقارب المستحيل ليس كقائد أو زعيم ثوري آخر، بل كقائد وزعيم عربي ومسلم أيضاً، مضيفاً للتحدي الكبير تحد كبيراً آخر. فلربما كان من الأسهل على أي قائد ثوري آخر (غير عربي ومسلم) في العالم أن يتحدى الهيمنة الغربية ومنظومة الاستعمار الغربي، رغم التحدي الهائل الذي يمثله هذا المشروع بحد ذاته. أما أن يفعل ذلك زعيم عربي ورجل دين مسلم برغم قرون من الشيطنة وبرغم الدور الهائل لكل أدوات الدعاية وصناعة الأيديولوجيا الإمبراطورية، ويحظى برغم كل ذلك بشعبية مدهشة ومحبة كبيرة وإعجاب لافت حتى في أوساط شعبية غربية وعالمية (من اليسار الغربي والعالمي إلى الأكاديميا الغربية والعالمية وما بعد) فهذا مذهل. في الحقيقة، ربما لم تتضرر الهيمنة الغربية فكراً وعقيدة ومصالح، راهناً وبعيداً، من قائد ثوري أممي، كما تضررت من القيادة الفذة للسيد الشهيد الذي لم يبدع قائد ثوري عالمي مثله في تفكيك وفضح آليات الهيمنة والاستعمار وأيضاً قيادة مقاومتها ببراعة غير مسبوقة.

النبي الشهيد: توطين المقاومة وتعريبها
مع ميلاد النبي العربي الكريم، محمد (٥٣ ق. ه – ٥٧١ ميلادية)، كان العالم على أبواب انقلاب تاريخي هائل، سمته الأساسية الانهيار المتزامن للإمبراطوريات الكبرى حينها كبيزنطة وفارس. أما الجزيرة العربية، مهد الإسلام الأول وسكانها العرب، فلقد كانوا حتى الوحي والرسالة المحمدية وقيادة النبي محمد (ص) مجرد طرف هامشي جداً في هذا العالم، يعيش غالبيتهم في جوع وفقر مدقع (5). لكنهم امتلكوا، لأسباب متعددة وعديدة، الأهلية ليكونوا الفاعل التاريخي الأهم، ليس فقط لتغيير العالم، بل وقيادته لاحقاً لقرون. ثم جاء النبي الكريم محمد بن عبد الله، وكان ما كان.
لكن مهمة الرسول الكريم بدت لمن عاش في تلك الأيام مستحيلة، وحتى تقارب الجنون. فكيف لرجل آت من أطراف وهوامش العالم، أن يقوم في السنة السادسة للهجرة، وقبل حتى أن تستقر له الأمور في الجزيرة العربية، حتى لا نقول شيئاً عن عدم قدرته في ذلك العام على مجرد زيارة مكة القريبة، أن يتجرأ على التفكير بالكتابة إلى هرقل، ملك الروم (حمل الرسالة دِحْيَةُ الْكَلْبِيّ)، كسرى، ملك فارس (حمل الرسالة عبدالله بن حذافة السهمي)، النجاشي في الحبشة (حمل الرسالة عمرو بن أمية الضمري)، المقوقس حاكم مصر (حمل الرسالة حاطب بن أبي بلتعة) يدعوهم فيها إلى الإسلام.
ورغم كل الاحتمالات الرهيبة التي واجهتها الدعوة المحمدية، لم يمض على إرسال تلك الرسائل تسعة أعوام فقط (وبعد أقل من أربع سنوات على رحيل الرسول الكريم إلى جوار ربه)، حتى كانت جيوش المسلمين تخوض معركتين كبيرتين ضد الإمبراطورية البيزنطية في اليرموك (١٥ آب ٦٣٦ ميلادية) والساسانية في القادسية (١٦ تشرين الثاني ٦٣٦ ميلادية) مجتمعتين وخلال أقل من ثلاثة أشهر بينهما وتنتصر بشكل ساحق. كانت هاتان المعركتان مجرد البداية لما يقارب الخمسة عشر قرناً من التأثير الحضاري والثقافي المستمر على شعوب وأمم وعصور وحركات يندر أن عرف التاريخ مثلها ومثل تأثيرها، وشكلت، ولا تزال وستظل، البصمة الفريدة والنادرة والاستثنائية لرجل واحد ولمشروعه على تاريخ البشرية.
ومع انطلاقة حزب الله في ١٩٨٢، ولاحقاً تسلّم الشهيد السيد حسن نصرالله الأمانة العامة في شباط ١٩٩٢، كان العالم أيضاً على مشارف انقلاب وتحول عظيم. لكن، كان المقاومون في لبنان، أيضاً، يواجهون تحديات هائلة وشروطاً موضوعية تبدو لمن عاشها واختبرها مباشرة شبه مستحيلة وتقارب الجرأة على تحديها الجنون. وليس ذلك فقط بسبب معنى وتبعات حراكهم الذي يتجاوز لبنان ليصل مباشرة إلى تحدي والاصطدام بالتنظيم الاستراتيجي الأبعد إقليمياً ودولياً، بل لأن وجودهم بحد ذاته أيضاً، عدا عن معنى انتصارهم وتبعاته، وضعهم مباشرة في مواجهة مصالح محلية وإقليمية وكونية هائلة جداً ومترابطة، تستند إلى الترتيبات الإقليمية والدولية الصلبة القائمة، ليبدو فعلاً مجرد التفكير في تحديها في تلك اللحظة ضرباً من الجنون.

لقد دُفِعَ الثمن الأقصى على طريق القدس، رغم كل ما سيأتي في هذه الحرب الصعبة والطويلة من أثمان مؤلمة. لهذا بالضبط لا يمكن لأي ثمن مهما كان أن يرهبنا>

ففي حين أن انطلاقة كل حركات المقاومة والتحرر الوطني السابقة على حزب الله في القرن العشرين، مثلاً، حدثت في ظروف مد ثوري عالمي وإقليمي ومحلي (فييتنام، الجزائر، كوبا، وحتى الثورة الفلسطينية المغدورة)، وحتى في ظل انقسام عالمي وإقليمي ومحلي واضح وفر لها حاضنة محلية وإقليمية ودولية صلبة، جاءت انطلاقة حزب الله وتصاعدت مقاومته في ظل تراجع ثوري عالمي، وحتى في حالة رِدَّة ثورية محلياً وإقليمياً ودولياً بفعل الهيمنة الأميركية شبه المطلقة على المنظومة الدولية بعد تشكل نظام القطب الواحد وإعلان نهاية التاريخ. المدهش جداً في هذه المسيرة العظيمة والتاريخية للمقاومة الإسلامية في لبنان، هو أن هذه الحركة الهائلة وتطورها المدهش تبدو فعلاً، ويجب أن تبدو، كأنها نشأت في التحليل الأخير من رجل واحد، قادم من أحياء الفقر والبؤس، وتمكن، رغم كل شيء، أن يترك بصمته وأثره على التاريخ الحديث لشعبه وأمته وحتى حركة التحرر العالمية.
لهذا، ومنذ انطلاقة حزب الله ولاحقاً تسلّم السيد الشهيد الأمانة العامة، كنا وكان العالم أمام بانوراما تاريخية ثورية مدهشة بكل المعاني. لم تكن هذه بانوراما كتلك التي نراها على الشاشات، أو في اللوحات الفنية، أو في ملاحم الشعراء. كانت بانوراما حقيقية وحية من لحم ودم وفولاذ ونار. كنا نشاهد مقاومين عرباً من لحم ودم، يقودهم قائد عربي، أيضاً من لحم ودم، في ثاني أصغر دولة عربية، يحاربون القاعدة المتقدمة للنظام الإمبريالي العالمي (والأكثر تسليحاً ودعماً وتغطية)، ويحاربون عبرها أكبر وأغنى وأقوى الإمبراطوريات في التاريخ مجتمعة وينتصرون.
كانت مجرد فكرة التمرد العربي على المنظومة الغربية الحاكمة للعالم، وخصوصاً بعد ١٩٩١، في إحدى أهم مناطق العالم وأغناها، تهديداً يستوجب الرد بحروب مدمرة وساحقة. لكن، ورغم المقدرات البسيطة والاختلال الهائل جداً في موازين القوى المادية، وحتى الأيديولوجية، لمصلحة العدو والمنظومة الإمبريالية التي اعتقدت أن لا تاريخ بعد حاضرها، كنا نرى مقاومين عرباً، إخوةً لنا، من لحمنا ودمنا يشقون الطريق لأمتنا وللمستضعفين في المنطقة والعالم بالدم والفولاذ والنار، حتى نكون، وحتى يكون لنا في نهاية المطاف موطئ قدم بين الأمم والشعوب.
وكنا نرى قائداً عربياً من طراز لم نعرفه سابقاً. كنا نرى واحداً منا، من دمنا ومن لحمنا، فذاً ومدهشاً، حقيقته المذهلة وموهبته الفريدة كانت تبدو لنا، حتى رأيناه بأم أعيننا لنصدق حقاً، أقرب إلى الأسطورة والخيال والحلم والأماني منها إلى الواقع الحي والحقيقي. لكننا شاهدناه بأم أعيننا، وسمعناه يخاطب عقولنا مباشرة وعلى الهواء: «مصيرك بيدك». سمعناه يعيد إلينا الروح ويسحق روحهم: إنهم «أوهن من بيت العنكبوت» فـ»هزمت الروح هنا الروح هناك». سمعناه يقول ويفعل: «إلى حيفا وما بعد حيفا»، وسمعناه يحسم المعركة في بدايتها: «انظروا إليها تحترق»، ورأيناها تحترق. واحد منا، من لحمنا ودمنا، يقود مواجهة الحروب المتعددة (لا حرباً واحدة) علينا وعلى أوطاننا وعلى أمتنا كلها (عسكرياً، سياسياً، إعلامياً، اقتصادياً، أيديولوجياً) وينتصر بها جميعاً، وفي كل مرة. كنا نرى بذهول ودهشة صعود زعيم عربي منا في منعطف تاريخي مفصلي يتوحد فيها ويتوافق التكوين الفكري والعقائدي والقيادي والسياسي والكفاحي الخاص بهذا الرجل العظيم مع الظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية والكفاحية في زمانه ومكانه لإحداث تأثير تاريخي هائل ودائم، وعلى نطاق إقليمي، وحتى عالمي. لهذا، أصبح جوابنا المختصر، لكن الكامل والكافي تماماً، عن سؤال سبب قناعتنا المطلقة بحتمية النصر وتحرير فلسطين والأمة دائماً: السيد حسن نصر الله. ومعه كنا نرى ما يعيد لنا الاعتبار والثقة بأنفسنا، بعروبتنا، بإسلامنا، بمسيحيتنا، بتاريخنا، بتراثنا، بثقافتنا، وبحضارتنا، وهو كان بحق، ومنذ البداية، التعبير الأسمى والأجمل والأرقى والأطهر والأصدق لتاريخنا الحقيقي، وحضارتنا الحقيقية، وثقافتنا الحقيقية، وتراثنا الحقيقي، وعروبتنا الحقيقية، وإسلامنا الحقيقي، ومسيحيتنا الحقيقية، ولكل ما نفخر به. هذه البانوراما المدهشة التي تابعناها يوماً بيوم، لأكثر من أربعين عاماً وكان يقودها السيد الشهيد، كانت المشهد الأكثر صدقاً وحقيقةً وثوريةً في تاريخنا المعاصر.
السيد الشهيد، نصر الله، قاد وأسَّس أول مشروع توطين حقيقي وجذري وكامل للمقاومة في المنطقة العربية منذ استعمار فلسطين، ما يفسر تميز تجربة حزب الله عن غيرها والتأييد الواسع لها حتى من خارج البيئة اللبنانية والعربية والإسلامية، ونجاحها المدهش أيضاً. ومنذ ١٩٩٢، بدأنا نرى أكبر عملية استكشاف وإعادة إنتاج ممنهجة لكل ما هو ثوري في التاريخ العربي والإسلامي وتسخيره في المعركة والتأسيس لعقيدة ثورية مقاومة محلية أصيلة قادرة على مواجهة التحدي الهائل. رأينا تراثنا وتاريخنا وحضارتنا وثقافتنا ورموزنا الأهم في التاريخ كلها تدخل المعركة بطريقة غير مسبوقة لم نعهدها سابقاً. أصبح الحديث عن «مصارع الكرام» تياراً عاماً أو يكاد، ودخلت ثورة الإمام الحسين كلّ بيت: «والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد»، وعاد للشهادة وهجها وشرفها: «إن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة».
وعلى مدى أكثر من ثلاثين عاماً، تصدى السيد الشهيد لمهمة التأسيس العقائدي والثقافي والتاريخي والحضاري والسياسي والكفاحي للمقاومة وفق طبيعة ومتطلبات الواقع والسياق التاريخي والثقافي العربي والإسلامي وحتى الجنوبي. فإذا كان بإمكانك أن تستورد السلاح أو أياً من متطلبات المعركة المادية، فلا يمكنك أبداً أن تستورد عقيدة قتال ومقاومة. لا يمكنك أن تقاتل وتنتصر بعقيدة مترجمة، ولا يمكنك أيضاً أن تبني مقاومين مثل الذي رأيناهم ورآهم العالم بدهشة يسحقون نخبة جيش العدو في بنت جبيل ومارون الراس وعيتا الشعب وخلة وردة بعقائد مستوردة ومترجمة، وتتجاهل تاريخك وثقافتك وحضارتك ورموزك.
كانت مهمة السيد الشهيد نصرالله لإعادة تشكيل ثورية للروح العربية والإسلامية أعقد بما لا يقاس من أي تجربة ثورية أخرى لأي من حركات التحرر الأخرى في العالم. وليس ذلك فقط لاختلاف السياق الثقافي والتاريخي والسياسي، أو حتى لأنَّ معنى وتبعات نهوض أمتنا وتحرير فلسطين كانت ولا تزال أكبر بكثير مما تحتمل القوى الأكبر والأغنى والأقوى في العالم، ولا لأن مشاريع المذهبة والتطييف والتقسيم الاستعمارية لأمتنا لعقود أنتجت حولها مصالح هائلة، وبعضها حتى عربية حيث ساد «نمط الثقافة الإمبريالية» حتى بين بعض النخب العربية التي أصبحت تردد كالببغاوات الدعاية المعادية وتَجنّد بعضهم حتى في المعركة في صفوف العدو ضد المقاومة. بل وأيضاً، لأن السيد الشهيد قاد المقاومة في أصعب لحظات تاريخنا الحديث، والتاريخ الحديث، وأشدها قتامة وَرِدَّة وارتقى بها، رغم كل ذلك، إلى حيث لم تكن أبداً وإلى حيث أصبح أفق النصر للصابرين والشجعان واضحاً كالشمس.

خاتمة: لا مكان للتراجع… عقيدة الأمين
باستشهاد سيد المقاومة، قدّمت أمتنا التضحية الأغلى والأكبر والأصعب والأشد إيلاماً من كل ما مضى ومن كل ما سيأتي من تضحيات. لقد دُفِعَ الثمن الأقصى على طريق القدس، رغم كل ما سيأتي في هذه الحرب الصعبة والطويلة من أثمان مؤلمة. لهذا بالضبط لا يمكن لأي ثمن مهما كان أن يرهبنا. لقد نال منا العدو وأوجعنا أكثر مما كنا نظن أنه يمكن لقلوبنا أن تحتمل. لكن لذلك بالضبط أيضاً، لا يمكن لأي ثمن أو تضحية أن تدفعنا للتردد أو التراجع.
أمّا المقاومون الأبطال، تلامذة مدرسة الشهيد وأبناؤه وأحبته وأنصاره وحاملو وصيته وعقيدته، فلسوف يضعون السيد الشهيد وذكراه الشريفة، كما وضعوه دائماً، عميقاً في قلوبهم وأرواحهم إلى الأبد، سيجففون دموعهم على فراقه مؤقتاً، وسيخوضون معركته ومعركتهم ومعركة الأمة والإنسانية حتى النهاية، وسيحصدون النصر الذي وعدنا به. فلدى الأمين الشهيد نصرالله ومن معه من مقاومين «لا مكان للتراجع» ليست شعاراً، بل عقيدة وإيمان. فما قد لا يعرفه العدو أن أبطال المقاومة وأوصياء الدم ليس فقط لا يخشون الشهادة على طريق القدس وفلسطين، وعلى طريق الشهيد الأشرف، بل وأنهم تعلموا في مدرسة الأمين الشهيد أن المفجع لنا في الشهادة فقط أننا لا نستطيع أن نموت أكثر من مرة واحدة من أجل أمتنا وأوطاننا وأهلنا. هذه مدرسة الإمام الحسين وإمام المقاومة الشهيد نصرالله: «يُفعل بنا ذلك ألف مرة ما تركناك».
أمّا شهيدنا الأعظم والأحب والأقدس، الأمين نصرالله، فلقد صان الأمانة وأدى الرسالة كما لا يمكن لأي قائد أو بطل استثنائي آخر أن يفعل، تاركاً لنا عقيدته الفذة: «لا مكان للتراجع» و»هذا الطريق سنكمله». لهذا، سوف يظل السيد الشهيد حياً إلى الأبد، ولسوف يتحدّث إلينا إلى الأبد، ولسوف يُذكَر إلى الأبد، ولسوف يسمعه الناس إلى الأبد.
لا مكان للتراجع.

د.سيف دعنا كاتب عربي