مقدمة

تصدرت الولايات المتحدة المشهد العالمي باعتبارها إحدى القوى العظمى عقب الحرب العالمية الثانية، وتفرّدت بالصدارة مع تفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي في نهايات القرن الماضي، إلّا أنّ تلك الفترة تحديداً مثّلت قمّة منحنى صعودها ليبدأ بعدها مسلسل التقهقر والتراجع. حيث شهدت بواكير الألفية الجديدة بدء تراجع المؤشرات الرئيسية الضامنة للهيمنة الأمريكية على العالم وحفاظها على موقع صدارتها كقوّة أولى، كما تعرضت الولايات المتحدة في عدة مواقع وجبهات في العالم وفي الوطن العربي ومحيطه الإسلامي إلى سلسلة من الهزائم العسكرية الجيوسياسية. وساهم انتصار حزب الله في حرب تمّوز 2006 في إفشال المخططات الأمريكية الإقليمية والجيوسياسية التي روّج لها تحت عنوان “الشرق الأوسط الجديد”، ما أدّى إلى تعميق أزماتها الاقتصاديّة، لتندلع الأزمة المالية عام 2008 – أي بعد عامين من نصر تموز – والتي كان مركزها الولايات المتحدة وأثرها امتد إلى عدد كبير من الدول والاقتصاديات العالمية وإلى قطاعات مختلفة، ومذّاك تسارعت وتيرة تقهقر وانهيار ركائز الإمبراطورية الأمريكية، الأمر الذي خلق فراغاً في نطاقات الهيمنة الأمريكية العالميّة ما أتاح لعدة دول الاستفادة من هذا الفراغ لتعزيز مواقعها الإقليمية والعالمية، وعلى رأسها الصين وروسيا وإيران.

وبعد اندلاع طوفان الأقصى في سبعة أكتوبر الماضي، والذي جاء كمعركة محليّة إقليمية ولكن بأبعاد عالمية، كثر النقاش الإعلامي والأكاديمي والسياسي وفي مراكز التفكير الاستراتيجية عن احتمال زوال الكيان الصهيوني وسيناريوهات هذا الزوال، متزامناً مع احتدام النقاش حول تفكك نظام القطب الأوحد العالمي وانتهاء عصر الهيمنة الأمريكية واحتمالات انهيار الدولار وفقدانه لموقعه كعملة عالمية.

ويمكن تقسيم عوامل انهيار إمبراطورية الشر والاستكبار الأمريكية إلى عوامل داخلية وعوامل خارجية:

أولاً: العوامل الداخلية

تستمر أزمات الولايات المتحدة الاقتصادية في التصاعد، فمع أزمة التضخم ومعدلات الفائدة يرتفع معدل الفقر الوطني وتنخفض قدرة الولايات المتحدة على المنافسة العالمية، ما ينعكس في تراجع الصادرات وارتفاع الواردات واختلال تراكمي في الميزان التجاري وانخفاض الإيرادات، وأثر ذلك على استعصاء الوفاء بالالتزامات المالية والائتمانية والديون المحلية والخارجية.

ينعكس هذا الواقع الاقتصادي سلباً على مستويات معيشة الأمريكيين وظروفهم الحياتية، حيث تستمر تكاليف السكن في الارتفاع مترافقة مع ارتفاع أعداد المشردين والتي بلغت بحسب التقديرات الرسمية حوالي 650 ألف مشرّد في نهاية العام 2023، 28% منهم عائلات مع أطفالها، وتستمر الفجوات الطبقية والعرقية ومؤشر انعدام المساواة في الارتفاع على سنين متتالية، وتظهر الفروق العرقية في كل مناحي الحياة بما فيها الحصول على حد الكفاية من الصحة والتغذية والتعليم والتوظيف والسكن كما تظهر في جميع النقاط التي تُفتَرض فيها العدالة بين المواطنين.

وتعتبر الولايات المتحدة الأولى في العالم من حيث معدلات الاحتجاز مع وجود حوالي 2 مليون شخص في السجون، بالإضافة إلى ملايين آخرين قيد الإفراج المشروط والمراقبة، ولا تخلو أعداد المحتجزين من الفروق العرقية. كما شهد العام الماضي ارتفاعاً عالياً في عمالة الأطفال خاصّة من المهاجرين، وارتفاعاً في معدل الوفيات بالجرعات الزائدة من المخدرات.

ومن جهة ثانية ترتفع مؤشرات قمع الحريّات إذ يواصل المشرعون حظر الكتب والمنشورات وإصدار قوانين تقيّد النقاشات الحرة في المدارس والجامعات، وحذف القصص الملهمة المتعلقة بتجارب التغيير الاجتماعي والثوري، ناهيك عن اللجوء للقمع العنيف كما حدث في مواجهة حركة “احتلال وول ستريت” أو في مواجهة الانتفاضة الطلابية لنصرة غزة.

وترتفع حدة الاستقطاب السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين ما يهدد التداول السلمي للسطة، ففي كانون الثاني 2021 اقتحمت مجموعات مبنى الكونغرس بدعم من ترامب وعملت على تفخيخ المبنى. ومع اقتراب موعد الانتخابات يتعرض ترامب لمحاولات اغتيال، كما هدد سابقاً أنّ الدولة ستغرق في حمام دم في حال عدم انتخابه.

كما يعاني المجتمع الأمريكي من أزمات أخلاقية مركبة وتيه حضاري كامل، وانشغل حرفياً قبل الطوفان بالإجابة على أسئلة على شاكلة هل يجوز للإنسان التحوّل إلى كلب!

تشير الأمثلة المعروضة إلى أنّ المجتمع الأمريكي يعيش في أزمة عميقة قابلة للانفجار في أيّة لحظة، ما ينذر باندلاع حروب أهلية قد تفضي إلى تفكك الولايات المتحدة إلى أجسام سياسية متعددة. يأتي هذا مع تنامي الإدراك عند فئات متعددة في المجتمع الأمريكي ودافعي الضرائب مفاده أنّ كلفة حفاظ الولايات المتحدة على هيمنتها الخارجية يأتي على حسابهم وحساب مستقبل أطفالهم، ومع تكشّف حجم الدعم المالي وغير المالي الأمريكي للكيان الصهيوني ولأوكرانيا تتصاعد الأصوات الأمريكية التي تتساءل عن جدوى هذا الدعم في حين وجود مئات آلاف الأمريكيين المشردين في الشوارع، وأعداد أكبر منهم غير قادرين على الحصول على خدمات الرعاية الطبية والصحية اللازمة. 

ثانياً: العوامل الخارجية

تشير المؤشرات الاقتصادية الرئيسية إلى تراجع الولايات المتحدة على سنوات أمام تقدم الصين، وتتراجع حصة مساهمة الإنتاج الأمريكي في إجمالي الناتج العالمي وبالمقارنة مع حصة مساهمة الإنتاج الصيني، ويتراجع موقع الولايات المتحدة عالمياً على مستوى الابتكار والاختراع، كما تتراجع حصة الدولار الأمريكي من الاحتياطات الدولية في العقدين الأخيرين، وساهم توظيف الدولار في الحروب والعقوبات الاقتصادية إلى تعميق هذا التراجع، وتخسر الولايات المتحدة وحلفاؤها التفوّق العسكري في عدة جبهات في العالم، يتجلّى ذلك في تقلّص نطاق ومستوى الهيمنة الجيوسياسية الأمريكية في العالم أمام صعود قوى أخرى.

على صعيد آخر، يكاد لا يوجد شعب من الشعوب أو أمّة من الأمم إلّا وتعرضت إلى حروب و مؤامرات أمريكا التي استغلت ونهبت خيراتها ومواردها، لتبني إمبراطوريّتها العالمية من عرق ودماء وجماجم وخيرات شعوب العالم، فقد ساهمت الولايات المتحدة بشكل مباشر وخلال عقود قليلة في إفقار الكوكب وتدمير بيئته ومناخه وقتل وتشريد وتهجير مئات الملايين من البشر، أدّى ذلك إلى تآكل قوّة النموذج والقيم الأمريكية وانفضاح زيفها وضلالها، ووضع الشروط الموضوعية لتشكيل تحالف من شعوب العالم كافّة ضد أنماط الهيمنة والاستغلال الأمريكي والغربي.

ما الذي يمنع إمبراطورية الولايات المتحدة من الانهيار؟

بعد استعراض كل هذه العوامل الداخلية والخارجية والتي تشير معاً إلى وجود منحى تاريخي يدفع باتجاه انهيار إمبراطورية الشر الأمريكية، يفرض السؤال التالي نفسه: ما هو العامل الأساسي الذي يحافظ إلى هذه اللحظة على استمرار الهيمنة العالمية للولايات المتحدة؟

بصدد القياس المنطقي مع التأكيد على فارق التشبيه بين معسكر الحق ومعسكر الباطل، يرد في القرآن الكريم في سورة سبأ الآية (14) قوله تعالى: ” فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ”.

تصف هذه الآية عدم إدراك الجن لموت نبيّ الله سليمان لأنّ جسده ظلّ متكئاً على منسأته (عصاه) وهو يجلس على عرشه فخيّل لهم أنّه حي فاستمروا في تنفيذ أوامره وطاعته، إلى أن جاء الدود ونخر المنسأة فانهارت وخر جسد النبي سليمان، حينها أدرك الجن وفاته.

ونرى مع فارق التشبيه أنّ الشكل الإمبريالي الإمبراطوري للولايات المتحدة قد مات فعلاً ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وأَنَّ تَبَعها وعبيدها ما يزالون في طاعتها لاعتقادهم أنّها ما تزال في قمّة جبروتها، إلّا أنّ الحقيقة من منظور الاقتصاد السياسي والجغرافيا السياسية تشي بعكس ذلك، وتقول أنّ السبب الوحيد لبقاء جثّة الولايات المتحدة دون الانهيار هو هذا الاعتقاد تحديداً؛ الاعتقاد بأنّها ماتزال بجبروتها.

ولو انفضوا جميعهم أو بعضهم من حولها لانهارت مباشرة، فالسبب الرئيسي وراء قوّة الدولار الأمريكي رغم انهيار معظم المؤشرات الرئيسية في الاقتصاد الأمريكي غير موجود في عوامل القوّة الذاتية الأمريكية، بل في أنّ معظم العالم مايزال يعتمده كعملة رئيسية للتداول وللاحتياط، والسبب الرئيسي وراء عدم خسارة الولايات المتحدة لمواقع جيوسياسية كثيرة في العالم لا يعود لقوتها العسكرية الذاتية، بل لوجود وكلاء وحلفاء وكيانات وظيفية يخوضون حروبها نيابةً عنها.

إنّها مسألة وقت فقط، حين يذوب الثلج ويتبيّن أنّ مرج الولايات المتحدة قاحط وخواء.  

علي حمدالله – فلسطين