أطلقت الضربات الإسرائيلية المتلاحقة التي أصابت المقاومة، وتسببت بإخراج عدد من قادتها العسكريين وجزءاً من بنيتها البشرية من خنادق الحرب، مناخاً إعلامياً وسياسياً كان بالأصل متربّصاً بالمقاومة في لبنان، سواء من موقع خصومة لبنانية وعربية تقليدية عميقة على خلفية الموقف العدائي من خيار المقاومة والتشكيك بجدواه والترويج لما تسمّيه واقعية التفاوت في موازين القوى وعدم الوقوع في سطحية الافتراض بالقدرة على ربح المنازلة بوجهه بسبب حجم ما يحظى به من دعم غربي ومن قوة تكنولوجية متفوقة، أو من موقع اصطفاف متناقض مع المقاومة خلال الحرب على سورية، تدّعي الوقوف بوجه كيان الاحتلال لكنها دأبت على التعامل مع جبهة الإسناد اللبنانية بلغة التخوين والتشكيك. وقد أتاحت نوعية هذه الضربات لها فرصة التنمر والقول أرأيتم لقد قلنا لكم، إن القتال بوجه جيش الاحتلال ومخابراته نوع من الانتحار، بينما قال الذين يقولون إنهم مع المقاومة في غزة لكنهم يملكون مشاعر عدائيّة لحزب الله على خلفية الحرب على سورية والتباين في المواقف منها، وهم جزء من مناخ في تنظيم الأخوان المسلمين لا يمانع في إيجاد الأعذار لاحتفاظ تركيا بالسفارة الإسرائيلية في بلده بينما تغلق مثيلاتها في دول مثل كولومبيا وبوليفيا وتشيلي والبرازيل، ودأبوا منذ فتح جبهة الإسناد على التشكيك بدورها وقيمتها وفاعلية ما يقوم به حزب الله، ويقولون إنه يقوم بعملية رفع عتب او دفاع عن سمعة، ويبالغ بالسعي لتفادي الحرب حتى منح بنيامين نتنياهو فرصة الذهاب الى الهجوم، ولو قام بردعه كما ينبغي لما حدث ما حدث، وصولاً الى القول كما فعل اللواء فايز الدويري على قناة الجزيرة أمس بالقول إن ما يجري يثبت صحة كلامه السابق لحزب الله، أُكلتم جميعاً يوم أُكل الثور الأبيض وهذه نتيجة عدم خوضكم للحرب بكامل قوتكم يوم بدأ طوفان الأقصى، وكانت غزة بكامل قوتها وكان الاحتلال مضطراً لتجميد قواته للقتال فيها.
بكل هدوء سننظر الى هذه الحجج وهذا المنطق، ونبدأ بجدوى ولا جدوى ما فعله حزب الله، ونسأل وهل أبلغ جواباً على التشكيك بخطورة ما قامت به جبهة لبنان مما فعله ويفعله الاحتلال تعبيراً عن شعوره بالمأزق الذي وضعته فيه المقاومة عبر حدود لبنان؟ ثم ألا تستعجلون في إصدار الأحكام النهائية على حرب لا تزال في بدايتها، كما فعل الذين تحدّثوا في أيام الحرب الأولى على غزة بالقول للمقاومة هناك إن هذه ثمرات مغامرتها، وإنها سوف يتم سحقها لأنها لم تقم الحسابات الواقعيّة، وهذا ما قيل لليمن مع مجيء حاملات الطائرات الأميركية الى البحر الأحمر.
حزب الله لا يُنكر أن هذه الضربات كشفت وجود خلل أمني كبير في طريقة أدائه وربما في بعض هياكل العمل في بنيته، لكن إذا اعتبرناها بحجم 11 أيلول على أميركا، فهي لم تسقطها، واستطاعت أن تنهض بعدها، لكن الكيان حتى الآن يفشل بالنهوض من آثار 7 أكتوبر والطوفان. وإذا دققنا قليلاً بما جرى على جبهة الحدود أمس، ودماء الشهداء والجرحى لم تبرد بعد، انتبهنا أن هذه البنية خارقة في قدرتها على التماسك والنهوض، والعودة بقوة أشدّ إلى الميدان، وغدا وبعد غد ستظهر هذه البنية أدلة أهم على هذه القدرة على النهوض والتماسك والفعالية في الميدان.
هذا النوع من الضربات الناجمة عن استثمار أمني كبير وتراكميّ لسنوات، يجري تخبئتها عادة لتكون مفاجآت الحرب الكبرى، ويكفي أن نتخيل لو أنه تمّ تجميع هذه الضربات خلال حالة الحرب، لنعرف حجم الأثر الذي كانت سوف تتركه في الميدان مع فوضى وضياع ساعات على الأقل يمكن خلالها قوات الاحتلال فعل الكثير. ولعل هذا يقول إن جيش الاحتلال يقدم على كشف هذه الأوراق الهامة ويستخدمها بصورة عارية خارج الحرب لأنه يدرك أنه عاجز عن الذهاب إلى الحرب، وحسناً فعل حزب الله بعدم الذهاب الى سماع النصائح بقصف عمق الكيان بصورة استباقيّة قبل شهور، لأن الحرب كانت ستقع ومن ضمنها يجري استثمار هذه الأوراق دفعة واحدة وتنتج عنها خسائر يصعب تخيّلها ويصعب تخيل القدرة على احتوائها في تلك اللحظات الفاصلة.
حزب الله بعقل بارد يعلم أنه بأسلوب إدارته للحرب يحفظ جبهة داخلية حكومية وسياسية وشعبية مساندة على مستوى كل لبنان، بحيث يحصد حزب الله من طريقة إدارته للحرب مزيداً من الوحدة بينما يحصد الكيان من أسلوب إدارته للحرب المزيد من الانقسام، كما يزخم مناخاً عربياً ودولياً يتبنى شعاره القائل، أن الذهاب الى الاتفاق مع المقاومة في غزة وحده يضمن وقف النار وعودة المهجرين على جبهة لبنان، كما يقول الأمين العام للأمم المتحدة والرئيس الأميركي ومفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي في تعليقاتهم أمس، بينما تزداد العزلة الشعبيّة للكيان لأن المقاومة لم تمنحه مظلومية يبيعها إعلامياً، وجعلته يبقى وحيداً في ساحة الإجرام كقاتل يستهدف المدنيين وخصوصاً النساء والأطفال.
حزب الله طائر فينيق ينهض من الرماد ويحلق، وسوف تقول الأيام المقبلة الكثير عن ذلك. فالمعركة ليست فقط الإبهار الأمني والقدرة على إلحاق الأذى والتسبب بالألم، بل القدرة على حل العقد المستعصية، فهل يجرؤ كيان الاحتلال على عمل برّي عبر الحدود؟ والجواب أن المقاومة تتمنى أن يفعل ذلك. وهل يجرؤ على استهداف المرافق الحيوية والتجمّعات السكنية المدنية وقتل المئات على طريقة ما فعل ويفعل في غزة؟ والجواب أن المقاومة لا تتمنى أن يفعل ذلك بالتأكيد، لكن الاحتلال أيضاً يتمنى ألا يدفع المقاومة الى التحرّر من حسابات فعل المثل، وهي عندما يقصف مطار بيروت لن تتردّد بقصف مطار بن غوريون، وعندما يستهدف ميناء بيروت سوف تقصف ميناء حيفا ومحطات الكهرباء مقابل مثيلاتها، وإسقاط الأبراج السكنيّة رداً على المثل. والسؤال من دون هاتين ما هي خطة الاحتلال لإلزام المقاومة على التراجع غير قتل المزيد من القادة والمجاهدين؟ وقد قالت التجربة إن المقاومة تحتوي هذه الخسائر وتثبت القدرة على مواصلة القتال بكل جسارة وجدارة، لكن لا تستعجلوا.
وضع رئيس حكومة الكيان معادلتين، فك الترابط بين جبهة لبنان وجبهة غزة، وإعادة مهجري مستوطنات الشمال، والمقاومة بما فعلته أول أمس وأمس عبر الحدود قالت إن هذا الترابط يزداد قوة وإن المزيد من المستوطنين سوف يهجّر منهم، فهل لدى الكيان حلّ لهذه المعضلة؟
أما الردّ فقالت المقاومة بلسان قائدها الأول إنه آت وإنه شديد عسير، وربما لا يكون عمق الميدان بعيد المنال مع هذا الردّ، فقط لا تستعجلوا، وتذكروا أن المقاومة في غزة لا زالت قوية وتقاتل وهي ليست الثور الأبيض الذي أُكل وحزب الله ليس الثورة الأسود الذي سوف يُؤكل، كي تصحّ مقولة الدويري، أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض.

ناصر قنديل – من زاوية نقاط على الحروف من جريدة البناء